بلال الصباح

هناك العديد من التعريفات العربية حول المستشرقين ودورهم في المنطقة العربية. وبإيجازٍ: هم مجموعة من الباحثين غير العرب تعلموا اللغة العربية لفهم الشرق الأوسط العربي وثقافاته وآدابه وفنونه. بينما المفهوم الذي اقتبسته من تأثيرهم في توجيه السياسات الدولية، فهم خبراء متخصصون في إعادة تصنيف الأقوال والأفعال العربية «الثقافات» بما يتوافق مع تعريفات علم الاجتماع الغربي، ثم رفعها كتوصيات لصنّاع القرار السياسي الغربي الذي بدوره يعمل على تقنينها كثوابت قانونية دولية.

كذلك للمستشرقين دور في صناعة المصطلحات ذات الأبعاد السياسية، حيث عملت بريطانيا على تسمية فلسطين بالأرض متعددة الأديان السماوية، بينما اعتبرت التنوع الديني في السودان نزاعاً عرقياً طائفياً، على الرغم من أن الصراعات السياسية في فلسطين كانت قائمة على الأسباب الدينية على مر التاريخ، بخلاف السودان الذي لم يشهد بتاريخه صراعات دينية إلا بعد التنافس السياسي الغربي على إفريقيا.

وهذا ما يدعونا لعدم التهاون مع المغالطات الإعلامية التي يقودها المستشرقون الجدد وعدم التفاعل معها على مأخذ دعم الحريات والرأي الآخر، فقدامى المستشرقين رسموا العلاقات الدولية بشكل سري بين النخب السياسية، بينما نحن اليوم أمام موجة استشراق جديدة تستهدف شبابنا العربي برسومات فكرية جديدة دون إرادتنا على وسائل الإعلام الاجتماعي وليس السياسي.

المغالطات المنطقية:

نشرت شبكة تلفزيون (CNN) بالعربية بتاريخ 3 ديسمبر 2020 مقالاً مفصلاً لكبير المراسلين الدوليين «بن ويديمان» حول معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية بعنوان: «شهر عسل الإمارات وإسرائيل تخطى مجرد التطبيع»، تناول فيه الباحث مجموعة من المغالطات مستخدماً نظرية «المغالطات المنطقية»، وهي من أخطر الأدوات الحوارية التي تعمل على تزييف الواقع من خلال طرحه على طاولة المنطق بما يتناسب مع أهداف الخصم من جانب واحد فقط، دون توضيح أو إبراز المنطق الأصلي الذي كان سبباً في نشأة الحدث من جميع جوانبه.

أخبار ذات صلة

عبدالفتاح البرهان: لا نقبل المساعدات المشروطة وعلاقتنا مع إسرائيل لم تنقطع
سقوط طائرة مقاتلة مصرية أثناء تنفيذ إحدى الأنشطة التدريبية

حيث حرص بن ويديمان في مقاله على تغليف القرار السياسي الإماراتي بثوب الخطيئة، وفي الجانب الآخر استرجع الباحث جزءاً من الصراع التاريخي بين المسيحيين واليهود مع ربطه بالصراع العربي الفارسي بشكل غير مباشر.

إن هذا التحقيق الصحفي ليس رداً على الصحفي بن ويديمان بشكل شخصي أو مباشر، بقدر ما هو تصحيح لمغالطاته التي هي نفسها أقاويل دعاة الإسلام السياسي وشركائهم من اليساريين والشيوعيين على أرضيتهم الخصبة في عقول الفلسطينيين.

التطبيع المصري الأردني:

لم تكن مقارنة بن ويديمان التطبيع الإماراتي مع إسرائيل بالتطبيع الأردني المصري في محلها المناسب، وهذا وفق أبسط أبجديات السياسة الدولية المتعارف عليها، فالتطبيع هو جزء من اتفاقية ثنائية بين دولتين، ولو بحثنا في الأرشيف الدولي للاتفاقيات الدولية، لن نجد اتفاقية ثنائية أو إقليمية تتوافق مع أخرى، والأسباب متعددة، أهمها اختلاف العلاقة بين الجغرافيا والسياسة من مكان إلى آخر.

فمعاهدة السلام المصرية مع إسرائيل كانت من أجل وقف الحروب على أرض سيناء، وكذلك معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية كانت بمثابة الضربة القاضية للميليشيات الفلسطينية التي كانت تعمل على إقامة الوطن البديل للفلسطينيين في الأردن.

أما وصف بن ويديمان الأردنيين بالمترددين والمصريين بالرافضين للتطبيع غير صحيح، فمن يعكر صفو التطبيع بين الأردنيين والمصريين مع الإسرائيليين هم من أتباع اليسارية العالمية على شكل التحالف الشيوعي - الإسلامي، كما أن رفضهم للتطبيع لا علاقة له بالواقع الفلسطيني ومتطلباته، بل لارتباطهم بالأجندات الخارجية التي تملي عليهم الرفض الدائم والمتجدد لجميع برامج حكومات بلادهم المحلية والخارجية جملةً وتفصيلاً.

السياحة بين الإمارات وإسرائيل:

محاولة بن ويديمان الربط بين إقرار اتفاقية السفر بين الإمارات وإسرائيل من دون تأشيرة بتعطيل قيام دولة فلسطينية بعد أن استقبلت الإمارات بعض الإسرائيليين من مستوطني الضفة الغربية، فيها من التضليل ما يكفي، فعلى الرغم من أن السلام الإماراتي أوقف ضم أراضي الضفة الغربية، إلا أنه لا علاقة بين قوانين السفر المتبعة دولياً بقيام الدولة الفلسطينية لا من قريب ولا من بعيد.

كما أن هناك العديد من المؤشرات هي التي تعمل على تحديد آليات التنقل «السفر» بين البلدان في السلم والحرب، من أهمها الانتماء الوطني والتأهيل الأكاديمي للشخص الذي يحمل جنسية دولة متقدمة اقتصادياً غير متورطة في قضايا الإرهاب والنزاعات، بمعنى أن جواز السفر الإماراتي لم يرتقِ للمراتب الأولى عالمياً إلا بعد قناعة عالمية بأن خروج المواطن الإماراتي من بلده لن يكون لأغراض الهجرة واللجوء أو لأجندات غير مرغوبة ومرفوضة دولياً.

لذلك يمكن القول أن إلغاء تأشيرات التنقل بين الإمارات وإسرائيل ليس من أجل التطبيع بمفهومه الشعبوي الضيق، بل إن كلتا الدولتين تتمتعان بدرجات عالية من الوعي الشعبي والتحصيل الأكاديمي، ما أعطى ضمانات للتوجه نحو تطبيق قوانين السفر المتبعة بين دول العالم الأول.

مؤشر آخر لا يقل أهمية، وهو أن الدول الأكثر تنظيراً ضد السلام والتطبيع هي الأكثر اختراقاً من قبل المؤسسات التجسسية العالمية، فإيران أصبحت مرتعاً للاغتيالات والتفجيرات، بينما أغرقت السلطة الفلسطينية الكثير من أبناء شعبها في وحل الجاسوسية لأجهزة الأمن الإسرائيلية.

التعاون التجاري الإماراتي الإسرائيلي:

دائماً ما يكون الحديث عن المستوطنات الإسرائيلية في مناطق السلطة الفلسطينية مقروناً بانتهاك إسرائيل للسيادة الفلسطينية، وحديث بن ويديمان عن الاستثمار الإماراتي هناك والذي قد يشمل بعض الجوانب الأمنية، كان مضلِّلاً بما لا يليق بمؤسسته الإعلامية.

البعض يفهم أن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل كاتفاقية ثنائية بين دولتين تربطهما حدود جغرافية مشتركة، ولكن إسرائيل بقوتها العسكرية والتكنولوجية ليست بحاجة لحماية ميليشيات يقودها الفلسطينيون، لذلك التنسيق الأمني بمضمونه الحقيقي هو تسخير جميع المؤسسات الفلسطينية لحماية المستوطنات الإسرائيلية الكائنة في المناطق الفلسطينية وليس لحماية إسرائيل من الداخل.

كما أن الواقع يشهد للتعاون الفلسطيني مع الإسرائيليين في استمرارية بقاء المستوطنات في الضفة الغربية، من حيث مشاركة العمالة الفلسطينية في أعمال بناء المستوطنات اليهودية، وتمويل بعض القيادات الفلسطينية لتشييد الجدار العازل بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إن الدول التي تغزو العالم باستثماراتها الضخمة يهمها خلق المناطق الآمنة والعاملة بمنظومة الأمن الاقتصادي المُتبع دولياً، والاستثمار الإماراتي في إسرائيل ومستوطناتها في الضفة الغربية سوف يضمن الأمن الاقتصادي لجميع العمال الفلسطينيين العاملين في الحقل التجاري الإسرائيلي بشكل تنموي حديث.

إن المشكلة الحقيقية التي يواجهها السوق الفلسطيني أنه ما زال مرهوناً بعقلية تجارة «الإتاوات»، فتارة أسواقهم شيوعية وأخرى إسلامية، وكثيراً ما تكون مرتبطة بالسياسات المضطربة دولياً لجلب الأموال من خلال الصفقات المشبوهة.

الإمارات والهيكل اليهودي:

من المؤسف حقاً أن يناقش كبير المراسلين في شبكة إعلامية عالمية، مشروع السلام العربي مع إسرائيل من خلال ربطه بصراعات دينية قديمة لسنا بصدد الخوض فيها بالنيابة عن الآخرين، فالكاتب بن ويديمان الذي انتقد إعلاناً إماراتياً ظهر فيه صورة الهيكل اليهودي، لم يحمل في طيات نقده روحانية التوفيق بين الأديان السماوية الثلاثة في بيت المقدس.

بن ويديمان تغلغل في العقل الباطن للمواطن العربي، دون الشعور بأدنى مسؤولية للأمانة المهنية، حيث ارتبط حديثه عن هدم المسيحيين الروم للهيكل اليهودي في القرن الثاني الميلادي بعلاقة الخليجيين بالرئيس الأمريكي ترامب التي سماها بالعقيدة الجديدة لتدمير إيران من أجل إسرائيل.

التطبيع التاريخي الذي انطلق من دولة الإمارات مع الديانة اليهودية في إسرائيل هو الثاني من نوعه، بعد أن قضت الصراعات السياسية والعرقية والطائفية على «التطبيع العمري» الذي رسمه الصحابي عمر بن الخطاب لسكان بيت المقدس من الروم والفرس والعرب، المسلمين والمسيحيين واليهود دون خوض العرب حروباً بالنيابة عن عرق أو دين أو طائفة باسم أن القدس فقط للمسلمين.

الخلاصة:

إن هذا النوع من المقالات لا تكون عواقبه أو نتائجه على مدى الأعوام القادمة، بل قد نحتاج إلى عدة عقود حتى ندرك أنها لم تكن عابرة فكرية أو خاطرة سياسية يومية، بل هي نتاج لمجموعة من الدراسات والأبحاث المتعمقة في علم الاجتماع الباحث في العلوم الإنسانية والتوجيه الشعبوي وفق الأبعاد المضطربة.

لذلك ما أحوجنا اليوم إلى نبش جميع الأدبيات القومية من قبورها الشيوعية المرتدية اليوم ثوبها الإسلامي، من أجل إعادة دراسة جميع علاقات الحرب والسلام بين العرب والدول الإقليمية كإيران وتركيا وإثيوبيا، وليس إسرائيل فحسب، من أجل الوصول إلى منابع صناعة المفاهيم الثقافية المؤثرة في الشعوب العربية من خلال منصات الإعلام العربي خلال 100 عام مضت.

إن معاهدات السلام الأردنية والمصرية مع إسرائيل كان طابعها عسكرياً بحكم الضرورة الجغرافية، ولم يكن التطبيع الشعبي وارداً بالنسبة لهم وللإسرائيليين كذلك، بينما السلام الإماراتي أو الخليجي والمغربي لا علاقة له بالتقارب الجغرافي ولا سبقته حروب عسكرية، بل هو واقع فرضه الصراع الثقافي في الشرق الأوسط بعد موجه التخريب التي قادها الإسلام السياسي بدعم من المستشرقين الجدد.

ولكن السؤال المطروح بواقعية، ما قدراتنا الفكرية وأدواتنا الإعلامية ومدى تأثيرها في شعوبنا العربية لتوضيح رسالة السلام العربية بثوبها الجديد بما يتناسب مع القدرة على خلق الأفكار أو تفسيرها أو تفنيدها في عصر ثورة المعلومات وسرعة تداولها؟