إيهاب الزلاقي

في شهر أبريل الماضي، ظهرت نافذة على أجهزة «آيفون» تطلب من المستخدمين منح الإذن لتتمكن التطبيقات المختلفة من متابعتهم، في الوقت الذي أعلنت «غوغل» فيه خططاً لتعطيل تقنيات التتبع في متصفح «كروم» الخاص بها. بينما قالت فيسبوك في الأسابيع الماضية، إن المئات من التقنيين لديها يعملون على طريقة جديدة لعرض الإعلانات دون الاعتماد على تتبع البيانات الشخصية للمستخدمين.

قد تبدو هذه التطورات وكأنها نوع من التطور التكنولوجي، لكنها في حقيقة الأمر ترتبط بشيء أكبر، حيث إنها معركة مشتعلة حول مستقبل الإنترنت، وهي تنذر بتحول عميق في أساليب استخدام المعلومات الشخصية للأفراد، مع الكثير من التأثيرات واسعة النطاق حول الطرق التي تحقق بها الأنشطة التجارية الرقمية الأموال، وفي قلب هذا الصراع تقف الإعلانات شريان حياة الإنترنت.

منذ أكثر من 20 عاماً، أحدثت شبكة الإنترنت ثورة في صناعة الإعلان، حيث أصابت الصحف والمجلات التي كانت تعتمد على بيع الإعلانات في مقتل، كما هددت بإلغاء إعلانات التلفزيون التي كانت طريقة المسوقين الرئيسية للوصول إلى الجمهور الواسع.

وبدلاً من ذلك، نشرت العلامات التجارية إعلاناتها عبر مواقع الويب، حيث تستفيد من توجيه العروض الترويجية مباشرةً إلى أصحاب الاهتمامات المحددة من الجمهور، وفي الوقت نفسه ساهمت هذه العوائد في نمو وتضخم شبكات مثل فيسبوك وغوغل وتويتر وغيرها، التي قدمت خدمات البحث والتواصل الاجتماعي مجاناً، ولكن في الوقت نفسه كانت تتعقب المستخدمين، وتستخدم معلوماتهم الشخصية من خلال ملفات «الكوكيز» حتى تستهدفهم بالإعلانات ذات الصلة بما يهتمون به.

هذا النظام الذي تضخم على مدار السنوات ليصبح صناعة رقمية بقيمة 350 مليار دولار، يتم تفكيكه الآن تحت ضغوط مخاوف الخصوصية عبر الإنترنت، وبقيادة عملاقي الصناعة أبل وغوغل اللتين بدأتا في تعديل قواعد جمع البيانات عبر الإنترنت.

أبل مثلاً، طرحت أدوات تمنع المسوقين من تتبع الأشخاص، بينما غوغل التي تعتمد بالأساس على الإعلانات الرقمية فقد عملت للاستفادة من الاتجاهين عبر إعادة اختراع النظام حتى يتمكن من الاستمرار في استهداف المستخدمين بالإعلانات دون استغلال إمكانية الوصول لبياناتهم الشخصية.

أخبار ذات صلة

خطة مبتكرة من ماسك لزيادة إيرادات تويتر
أبل تعتزم تقديم شاشة حاسوب ماك تعمل باللمس


ولكن إذا لم تعد المعلومات الشخصية هي المقابل الذي يقدمه المستخدمون للمحتوى والخدمات المجانية عبر الإنترنت، فيجب أن يحل محلها شيء آخر، وفي هذه الأثناء يقوم الناشرون وصانعو التطبيقات ومواقع التجارة الإلكترونية باستكشاف مسارات بديلة للبقاء على قيد الحياة وسط المخاوف المتصاعدة بشأن الخصوصية، لدرجة أن البعض يغيّر نمط الأعمال بالكامل، حيث يختار البعض الآن نموذج الدفع أو الاشتراك مقابل الحصول على الخدمات.

جيف جرين، الرئيس التنفيذي لشركة أمريكية لتكنولوجيا الإعلانات، يعلّق على هذه القضية في تصريحات لجريدة نيويورك تايمز بالقول: «يجري الصراع بضراوة في خلفية الكواليس حول الطبيعة الجديدة للإنترنت، وما يحدث الآن هو الإجابة عن سؤال ظل حائراً منذ عقود طويلة وهو: كيف سيدفع الإنترنت تكاليف استخدامه؟».

تداعيات التغيير قد تلحق الضرر بالشركات والأعمال التي تعتمد على استهداف المستهلكين وجذبهم لشراء منتجاتهم، وقد يتضرر البعض في البداية مثل فيسبوك، ولكن لا يتوقع الخبراء أن يستمر ذلك الوضع طويلاً، وبدلاً من تتبع المستخدمين، من المرجّح أن تنفق الشركات التي ترغب في الاستهداف المزيد من الأموال مع منصات التكنولوجيا التي تمتلك أكبر قدر من البيانات عن المستهلكين.

وتبدو التغييرات الحالية معقدة، بسبب تعارض وجهات النظر بين أبل وغوغل حول مقدار التتبع المطلوب للإعلانات الذي يمكن السماح به، ترغب أبل أن يكون لعملائها الذين يدفعون مبالغ كبيرة لاقتناء موبايل «آيفون» الحق في حظر التتبع تماماً، وهو الأمر الذي تنظر إليه غوغل بريبة باعتباره امتيازاً لفئة محدودة للغاية قادرة على شراء منتجات أبل.

هذا الاختلاف في التصورات التقنية ربما يؤدي لظهور إنترنت مختلف أمام كل مستخدم اعتماداً على المنتجات التي يستخدمونها، فمستخدم أجهزة ومنتجات أبل سوف يشاهد إعلانات متصلة مباشرةً باهتماماته الشخصية، مقارنة بالعروض عالية الاستهداف في الويب التي يسيطر عليها غوغل.

ويقول بريندان إيش، مؤسس متصفح «بريف» الذي يهتم بالخصوصية: «ربما يختار مصمم موقع الويب جانباً في نهاية المطاف، وربما نرى مواقع تعمل بشكلٍ جيد مع متصفح غوغل ولا تعمل من الأساس في متصفح أبل، وهو ما يعني أننا ربما نشهد شبكتين للإنترنت».

أمَّا الشركات التي تتجاهل هذه التغييرات المتلاحقة فهي تعرض نفسها للانهيار، ونحن نشهد حالياً ارتفاعاً كبيراً في تحول المواقع التي تقدم الخدمات إلى نماذج الاشتراكات، بداية من مواقع الفيديو حتى المواقع التي تقدم خدمة الطقس، حيث تفرض رسوماً بنفس الطريقة التي تفرض فيها شركة نتفليكس الاشتراكات، بينما تدرس بعض مواقع التجارة الإلكترونية رفع أسعار المنتجات لتعويض انخفاض أعداد المشترين.

ترفض أبل التعليق بشكلٍ رسمي على تأثير هذه التعديلات على شبكة الإنترنت، ولكن مديريها التنفيذيين يقولون إن المعلنين سيتأقلمون مع الأوضاع الجديدة، أمَّا غوغل فتقول إنها تعمل على نهجٍ من شأنه حماية بيانات وخصوصية المستخدمين، وفي الوقت نفسه يسمح بمواصلة استهداف المستخدمين بالإعلانات.

منذ تسعينيات القرن الماضي، اعتمدت الغالبية الكاسحة للويب على الإعلانات الرقمية، وعبر السنوات ظهر نظام إعلاني واسع، يدعم مواقع الويب والخدمات المجانية عبر الإنترنت، وازدهرت مئات المواقع والتطبيقات باستخدام هذا النموذج، بل إن مواقع التجارة الإلكترونية نفسها كانت تعتمد أساساً على الإعلانات لتوسيع نطاق أعمالها.

ولكن عدم الثقة في هذه الممارسات بدأ يتراكم، ففي عام 2018 تورط فيسبوك في فضيحة كامبريدج أنالاتيكا، وفي نفس العام سن المشرعون في أوروبا «اللائحة العامة لحماية البيانات»، وهي قوانين صارمة لحماية المعلومات الشخصية للأفراد. وفي 2019 دفعت كلٌّ من غوغل وفيسبوك غرامات قياسية للجنة التجارة الفيدرالية لتسوية اتهامات انتهاك الخصوصية.

بعدها أعلنت أبل إعادة النظر في نهجها الإعلاني بإجراءات متصاعدة، بما في ذلك ضرورة موافقة المستخدم الواضحة على تتبع أنشطته، وأثارت تلك الإجراءات احتجاج فيسبوك التي كانت من أكبر المتضررين، لتدخل الشركات في صراعٍ مع الزمن لاستكشاف طرق بديلة.

ومع هذه التحولات، يرى الخبراء أن تعديلات الخصوصية تعني أن الاعتماد على نمط الإعلان فقط في تحقيق الإيرادات لا يمكن أن يستمر، وأن جميع الشركات يجب أن تتكيف مع الأوضاع الجديدة، بما في ذلك فرض رسوم اشتراك، والاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي للمساعدة في توجيه الإعلانات من أجل البقاء أحياءً في عصر تشديد الحماية على الخصوصية.