أ ف ب

بعد 60 عاماً على انتهاء حرب الجزائر (1954-1962)، التي لم تندمل جراحها بعد، مازال المؤرخون يدرسون سياسة الجنرال الفرنسي شارل ديغول في الجزائر من كل النواحي. شرّحوا تناقضاتها واستراتيجيته، وخلصوا إلى أنه، بدافع مبدأ الواقعية، سار تدريجياً نحو تأييد منح الجزائر حق تقرير المصير.

في مايو 1958، قال شارل ديغول بعد عودته إلى الحكم بتأثير حرب الجزائر التي أنهت الجمهورية الرابعة: «هذه مشكلة لا يمكن حلّها، إنما نتعايش معها».

كان الرجل الذي أطلق النداء إلى مقاومة ألمانيا النازية في 1940 لا يزال يحتفظ بهالة من الاحترام، وكان ينظر إليه على أنه رجل المرحلة، الوحيد القادر على إخراج فرنسا من المستنقع الجزائري السياسي والاقتصادي والإنساني.

في الجانب الآخر من المتوسط، كان فرنسيو الجزائر مقتنعين بدورهم أن الرجل الذي قاتل قبل 15 عاماً من أجل تحرير فرنسا والحفاظ على سلامة أراضيها، سينقذ الجزائر.

لكن ديغول العائد إلى السلطة بعد 10 سنوات، «لم تكن لديه أي فكرة عمّا يمكن أن يفعله»، وفق ما يقول المؤرخ موريس فاييس.. وأحاط نفسه بشخصيات مؤيدة لبقاء الجزائر فرنسية، وبآخرين يؤيدون استقلال الجزائر التي كانت تستعمرها فرنسا منذ عام 1830.

أخبار ذات صلة

عبدالفتاح البرهان: لا نقبل المساعدات المشروطة وعلاقتنا مع إسرائيل لم تنقطع
سقوط طائرة مقاتلة مصرية أثناء تنفيذ إحدى الأنشطة التدريبية

ويضيف فاييس: «كان يعلم أن ثمة اتجاهاً عاماً لوقف الاستعمار، ولم يكن يدعي أن الجزائر ستبقى فرنسية إلى الأبد»، لكن لم يكن له موقف عقائدي من الموضوع.

تنسب إليه مواقف في مجالس خاصة حول الجزائر لم يكن في الإمكان التحقّق منها. لكن في خطاباته العلنية، حفظ التاريخ خصوصاً عبارة «فهمتكم» التي توجه بها إلى حشد جزائري يطالب ببقاء الجزائر فرنسية في الرابع من يونيو 1958، بعد 3 أيام فقط على تسلمه الرئاسة.

ما الذي فهمه؟ وكيف؟ تمّ تفسير العبارة بأشكال مختلفة، وكأنه أراد، عمداً، ألا يكون واضحاً تماماً، لكي يرضي الجميع.

وكان هذا التناقض السبب لاحقاً في اتهامه من جانب فرنسيي الجزائر وجزء من الجيش، بـ«الخيانة»، مذكرين إياه بأنه قال «لتحيا الجزائر الفرنسية» على هامش زيارة إلى وهران في السادس من يونيو 1958.

ويرى فاييس أنه «لا يمكن الحديث عن خيانة»، مضيفاً «كان يبحث عن مصلحة فرنسا. نقطة على السطر، وعن بقائها في الجزائر. كيف؟ لم يكن يعرف يومها الطريقة».

وسمح له هذا الغموض بكسب الوقت. لا بل بدأ يسير على خطى القادة الفرنسيين الذين سبقوه، «معتبراً أن إصلاح الجزائر سيسمح بإنقاذها. فأنشأ الهيئة الانتخابية الواحدة وأطلق برنامجاً صناعياً مع خطة كونستانتين»، وفق ما تشرح المؤرخة سيلفي تينو المتخصصة في حرب الاستقلال الجزائرية، التي تقول إنه حاول أيضاً أن يخوض «سلام الشجعان»، لكن جيش التحرير الوطني (الجناح العسكري لجبهة التحرير) رفض عرضه.

واعتباراً من 1959، شهدت سياسته منعطفات عدة، إذ قال في مارس 1960 أمام العسكريين في الجزائر، إن الاستقلال «خدعة»، لكنه عاد واختار السير نحو القبول بجزائر جزائرية.

وحصل المنعطف الحاسم في 16 سبتمبر 1959. يومها، أعلن ديغول أن للجزائريين الحق بتقرير المصير، ما اعتبر وثيقة وفاة حقيقية لفرنسا الجزائرية. أخذ بالاعتبار واقع الأرض في الجزائر، وتشويه صورة فرنسا في العالم، واتهامات ضدها في الأمم المتحدة، والتغيير في صفوف الرأي العام الفرنسي، إذ انتشرت على كل الجدران في كل الأراضي الفرنسية عبارة «السلام في الجزائر».

وحسم ديغول الذي لطالما قال إن «لا قيمة لسياسة خارج الواقع»، القرار، معتبراً أن الأمر لا يستحق كل هذه التضحيات. ويقول فاييس «كان براغماتياً، ووصل إلى نتيجة مفادها أن مصلحة فرنسا تكمن في وقف الاستعمار»، وطوى صفحة في تاريخ فرنسا، ولو أن تداعياتها لا تزال تتردد حتى اليوم.