أيمن سمير

الصراع الروسي الأوكراني والتحديات الجيوسياسية المرتبطة بالبحر الأسود وبحر البلطيق وشرق وجنوب شرق أوروبا، قادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعديلات هائلة وغير مسبوقة على وثيقة الأمن القومي التي تعلنها كل إدارة جديدة، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، حسب وكالة «بلومبيرغ»، وهي وثيقة يتم وضعها بطلب من الكونغرس، وتشكل خلاصة ما توصل إليه نحو 17 جهاز مخابرات أمريكي، مع مراكز الأبحاث وتحليل المعلومات وتقديرات المواقف، حول أبرز التحديات التي تواجه الولايات المتحدة، سواء على الصعيد الوطني أو على مستوى الخارج.

تعديلات وثيقة الأمن القومي

تعيد غالبية التعديلات الجديدة على وثيقة الأمن القومي الأمريكي، التي نشرت معلومات منها دوائر إعلامية غربية، الاهتمام إلى مناطق وأقاليم أهملتها واشنطن خلال السنوات الماضية، لحساب التركيز والاهتمام على المحيطين الهندي والهادئ. تحليل وثائق الأمن القومي الأمريكي، خلال العقد الماضي منذ مقال «الاستدارة شرقاً» الذي كتبته هيلاري كلينتون في عدد مايو 2010 من مجلة «فورين بوليسي»، يقول إن الاهتمام الأمريكي بدأ يتجه نحو إقليم المحيطين الهندي والهادئ، حتى وصل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأعلن وثيقته للأمن القومي في 18 ديسمبر 2017، والتي وصفت الصين وروسيا معاً لأول مرة أن كلاً منهما منافس استراتيجي للولايات المتحدة على الساحة الدولية، بعد أن ظل ما يسمى بالإرهاب الراديكالي على رأس المخاطر والتحديات الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 حتى تغيير الاستراتيجية في عهد إدارة ترامب في ديسمبر 2017. فما حدود التعديلات والتغيرات التي طرأت على وثيقة الأمن القومي الأمريكي نتيجة للصراع الروسي الأوكراني؟ وهل من دلالات حول تأجيل إعلان هذه الوثيقة حتى الآن؟

اليقين بالحرب

جرت العادة أن يعلن الرئيس الأمريكي الجديد، وثيقة الأمن القومي في العام الأول لدخوله البيت الأبيض، لكن إدارة بايدن وبعد دخوله للبيت الأبيض بنحو 45 يوماً أصدرت في 24 صفحة، الدليل المبدئي لاستراتيجية الأمن القومي في 3 مارس 2021، وطغى عليها النبرة المتفائلة للرئيس بايدن، بأن أمريكا سوف تظل على قمة العالم، ما دام هو في البيت الأبيض، من خلال تجديد التحالفات الأمريكية، والتركيز على التنمية الاقتصادية ومكافحة المناخ. لكن فيما يتعلق بالصين وروسيا، أظهر هذا المفهوم المبكر للمخاطر، أن الصين هي الخطر الأول والأكبر، ولهذا تحدثت الوثيقة المبدئية عن الصين 18 مرة، بينما تحدثت عن روسيا 6 مرات فقط. وكان من المقرر أن يتم الإعلان بشكل نهائي عن وثيقة الأمن القومي في يناير الماضي، لكن منذ منتصف ديسمبر 2021 كان لدى الولايات المتحدة يقين أن الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا سوف ينتهي بالحرب، ولهذا أرجأ البيت الأبيض إعلان وثيقة الأمن القومي الجديدة، وفق ما ذكرت «فورين بوليسي».

أخبار ذات صلة

«تحدٍّ أسرع من الصوت».. فرص المواجهة العسكرية بين أمريكا والصين
توقعات بخسارة ماكرون للأغلبية البرلمانية.. واليمين الفرنسي يصف الاختراق بـ«تسونامي»

حدود التعديلات الجديدة

وفرضت الحرب الروسية الأوكرانية، تحديات كبيرة على الولايات المتحدة، كما على غيرها من دول العالم، ولهذا تعمل الإدارة الأمريكية على إدخال تغييرات جوهرية على وثيقة الأمن القومي الجديدة، لتتناسب مع عالم ما بعد الصراع الروسي الأوكراني، وتدور حول مجموعة من العناصر:

أولاً: تؤكد النسخة الجديدة من وثيقة الأمن القومي الأمريكي، أهمية آسيا وأوروبا معاً للأمن القومي الأمريكي، وهذا يختلف تماماً عمّا جاء في استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها ترامب في 2017، أو في الدليل التوجيهي لإدارة بايدن في 3 مارس 2021، والتي كانت تعطي آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأولوية الكبرى، وكانت تشير بوضوح إلى أن التحدي الرئيسي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً يعود للصين، لكن في الوثيقة الجديدة، تعطي الإدارة الأمريكية أوروبا وخاصة شرق أوروبا، وعلاقاتها مع حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، مساحة جديدة وكبيرة من الاهتمام يعكسه نشر الولايات المتحدة نحو 100 ألف جندي في أوروبا، والدعم الكامل وغير المشروط لأوكرانيا، وحشد كل جيوش الناتو والاتحاد الأوروبي من أجل عدم تحقيق أهداف روسيا في أوكرانيا، وفق «بلومبيرغ». ويتزامن هذا أيضاً مع إدراك الولايات المتحدة، أن إضعاف روسيا في أوروبا، خاصة في البحر الأسود وبحر البلطيق من خلال تحديث سلاح هذه الدول، وإجراء مزيد من المناورات العسكرية في أوروبا، سوف ينعكس أيضاً على الأوضاع الجيوسياسية في آسيا.

ثانياً: تقوم رؤية بايدن على الفصل بين ما يحدث في أوروبا وما يجري في آسيا، لكن الوثيقة الجديدة، حسب نيويورك تايمز، لا تفصل بين الجبهتين، وترى صلة وثيقة بين أوروبا وآسيا من زاويتين:

1. الأولى أن الانتصار وتحقيق نتيجة لصالح الولايات المتحدة في أوروبا سوف يرسل رسالة إلى المحيطين الهندي والهادئ، وخاصة للصين، أن الولايات المتحدة مستعدة للمواجهة والتنافس، كما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية، كما تعطي رسالة لحلفاء واشنطن في آسيا، أن سرعة الاستجابة وقوة التحالفات، هي العنصر القوي الذي يجمع الولايات المتحدة وحلفاءها.

2. أما الزاوية الثانية للارتباط بين ما يحدث في آسيا وأوروبا، في وثيقة الأمن القومي الجديد، فهي أن إعلان الصداقة غير المحدودة بين بكين وموسكو في 4 فبراير الماضي، ثم الدعم الصيني الواضح لروسيا وعدم الانضمام للعقوبات الغربية، أكد لواشنطن من جديد، أن آسيا لا يمكن أن يتم فصلها عمّا يجري في أوروبا، والصراع الروسي الأوكراني. ويزيد من هذا الارتباط أيضاً استعداد دول آسيوية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لفرض عقوبات على موسكو بعد عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وهو ما يؤكد أن اليابان وكوريا الجنوبية، ودولاً آسيوية أخرى، سوف تتخذ عقوبات أشد ضد الصين حال تكرارها للنموذج الروسي مع أوكرانيا، بالنسبة لضم تايوان.

ثالثاً: تقول الوثيقة إن الصين هي أخطر تحدٍّ طويل الأجل للنظام الدولي، وهي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتمتلك بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك، بينما ترى في روسيا تحدياً واضحاً للديمقراطية وحرية اختيار التحالفات في أوروبا.

رابعاً: تؤكد الاستراتيجية الجديدة، أن الولايات المتحدة ستعزز وجودها وتعاونها في أوروبا، من أجل ألا يتكرر الصراع الروسي الأوكراني في مكان آخر، لكن الوثيقة ستشدد على أن الولايات المتحدة لا تهدف للدخول في حرب مباشرة مع روسيا. ولهذا قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي شهر يونيو الجاري «بالنسبة لنا، هناك مستوى واضح من التكامل والتكافل في الاستراتيجية التي نتبعها في أوروبا، وتلك التي نتبعها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.. أعتقد أن القدرة الفريدة التي يتمتع بها الرئيس بايدن لربط هذين الأمرين معاً، ستكون سمة واضحة للسياسة الخارجية خلال رئاسته».

فرص رغم الحرب

رابعاً: ترى الوثيقة الجديدة أن التركيز على أوروبا، والنجاح في الصراع مع روسيا، سيخلق فرصة حقيقة لمنع اندلاع حرب في آسيا، خاصة مع الصين حول تايوان، وأن سرعة فرض العقوبات على روسيا، وإرسال نحو 21 دولة من حلف الناتو، ونحو 42 دولة حول العالم، للمساعدات العسكرية والاقتصادية والإنسانية إلى أوكرانيا، مع التعزيز السريع للترسانات العسكرية الأوروبية، سيكون السبب الأول لمنع ما تراه واشنطن من احتمالية لاستعادة الصين السيطرة على جزيرة تايوان بالقوة، وهي رؤية أشار إليها من قبل الجنرال سكوت بيرييه مدير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، عندما قال إن «الصين تراقب الحرب الروسية الأوكرانية بعناية شديدة، الرسالة من أوروبا إلى الصين واضحة تماماً، أن العالم لن يقبل استخدام القوة في مكان آخر».

استراتيجية متكاملة مع الصين

ولا تقلل وثيقة الأمن القومي الجديدة، من التحدي الصيني للولايات المتحدة، لكنها تبني استراتيجية متكاملة، حسب وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في خطابه حول الصين في جامعة جورج تاون، من خلال 5 محاور رئيسية وهي:

1- الصين هي أخطر تحدٍّ طويل الأجل للنظام الدولي، وهي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتمتلك بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك.

2- ضرورة أن تسبق الولايات المتحدة الصين في التكنولوجيا المتقدمة، وأن تحافظ الولايات المتحدة على مكانها كأمة مبتكرة، عبر الإسراع في مزيد من الاستثمارات في الداخل الأمريكي، خاصة في تكنولوجيا أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية.

3- العمل على تأسيس مزيد من التحالفات الاقتصادية والعسكرية في آسيا، من خلال دعوة المزيد من الدول للانضمام إلى الـ13 دولة أعضاء الإطار الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والهادئ، الذي أعلنه بايدن في مايو الماضي، وتوسيع تحالف «كواد» الرباعي، وأيضاً دعم وتوسيع تحالف «أوكوس» العسكري الذي تأسس في 15 سبتمبر الماضي، لأن هذه التحالفات تضم نحو 60% من الناتج الإجمالي العالمي، حسب قراءة بلينكن.

4- التنافس مع الصين في كل مكان وفي كل مجال، وتقديم رؤية بديلة عن المشروعات الصينية، خاصة الحزام والطريق، ويعتقد بلينكن أن المقاربة الأمريكية والغربية، سوف تكون أقرب وأكثر منفعة للدول لأنها تقوم على الربح للجميع.

5- لا تهدف هذه الرؤية لعزل الصين، أو الحاق الضرر بها، كما لا تسعى واشنطن إلى تغيير نظام الحكم في الصين، ولا تبحث عن صراع أو حرب باردة جديدة، ولا تسعى لمنع بكين من ممارسة دورها كقوة كبرى، لكنها تعمل على تقويم السلوك الصيني، ودفع الصين نحو المسؤولية الدولية، ومراعاة القواعد الغربية وعدم التنمر على جيرانها الآسيويين، وفق ما قالت «فورين أفيرز».