د. شهد الراوي

الإنسان بفطرته يحب الموسيقى، ومنذ بواكير وعيه لم يكتف بتداخل الأصوات التي صنعتها الطبيعة، فعمل على محاكاتها من تغريد البلابل وزقزقة العصافير حتى دوي الرعد وهدير الشلالات وتلاطم الأمواج، كلها أصبحت تحت سيطرة خياله، فأعاد إبداعها ووضع لها قواعد وحدود.

وقال الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه: «لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأ»، وبعض المختصين يقولون إن الموسيقى وُلدت من الطقوس وتكرّست في المعابد منذ نشأتها الأولى، ونحن نعرف أن الموسيقى الغربية ولدت من الكورالات الدينية، ولم تنفصل عنها إلا في العصر الكلاسيكي، أي قبل ثلاثمائة سنة، وهي مثلها مثل كل موجودات الحياة، منها ما يرتقي بوعينا وخيالنا وإحساسنا إلى مستوى الغيوم، ومنها ما يهبط بنا إلى القاع.

قبل أيام حصل جدل كبير بسبب مقطوعة موسيقية، قدمتها شابة لبنانية في افتتاح بطولة دولة لكرة القدم، وصادف أن مكان البطولة قريب من أكثر الأماكن قدسية في وجدان العراقيين، فكان للحدث تداعيات واعتراضات شديدة اللهجة قابلتها ردود أفعال أعلى من تلك اللهجة، وتحولت عازفة الكمان إلى شخصية عامة، تركز حولها الجدل الذي استمر أكثر من العادة في موجات السوشيال ميديا، وتكرر نشر المقطع الجميل للعازفة، وهي تؤدي نشيد موطني مئات المرات.

الفتاة عازفة محترفة لا دخل لها بكل ما جرى، ولكنها وجدت نفسها في وسط هذا الجدل الذي لم يتوقف على صفحتها الشخصية.

والمهم من هذه الحادثة أننا تعلمنا أن الموسيقى ليست عدوة للمقدَّس، وإنما للناس الذين عينوا أنفسهم حراساً على القدسيات، فالأضرحة الدينية في العراق ومنذ أكثر من ألف سنة، لديها موقعها الموقر في قلوب معظم العراقيين الذين هم أحرص على قداستها من سواهم، فعلاقتهم بها تفيض بها القلوب، لكنهم يعشقون الحياة أيضاً، يحبون السلام والحرية ومن يتعلق بالحرية فإنه والموسيقى توأم، فلا حرية بدون موسيقى تصدح في سماء الوطن.

الكمان الذي حملته هذه الشابة مستنداً على كتفها، ومن حولها يتشكل علم العراق ونشيده الوطني هو أجمل مشاهد الحب الذي يسكن قلوبنا لوطننا، وإن من يحارب الموسيقى فهو يحارب ويستهدف الإنسان أولاً.

أخبار ذات صلة

اقتصاد الطبيعة والفرد
الصمت غير مبرر