رحلة الخوف الأول: الثعابين تسمع النداء وتزحــــــف إليك.. ولولا «أوراد الأولياء» لأكلتك الحشرات

كان الفتى يخشى العفريت ويخافه خوفاً عظيماً، وكان العفريت يملأ مخيلته ليل نهار، لذلك كان الطفل يلهج لسانه دائماً «بالفتحة» [الفاتحة] وغيرها من سور القرآن التي حفظها حفظاً جيداً، ولو أنه لم يفهم ولا يعي كلمة واحدة. ولكن ماذا يهم هذا؟ المهم أن العفريت سيسمعها وسيرتدع خشية وفزعاً من كلام الله العظيم الذي خلقه كما خلقنا.

ولم يكن يكره الحكايات بعد كل ما تفعله معه، بل كان يزداد لها حبّاً وولعاً، فكان إذا ترك غرفة السطح نزل إلى حجرة في الطابق السفلي أو الحجرة التي في الطابق السفلي، لأن الطابق كان يتكون من حجرة كبيرة وأخرى صغيرة جداً تحاكي الحجرة التي يعيش فيها - نزل إلى حجرة في الطابق السفلي وهي الحجرة التي كانت تجلس فيها أخته الكبيرة تخيط وتحكي له ما يشتهي أن يسمع من الحكايات.

وكانت الأخت تصعد لحجرته في الليالي المقمرة، وتجلس على «المرتبة» بينما ينام هو بجانبها ثم تقص له الحكايات أثناء ما تكون أمه مستمرة في دعك ظهره وساقيه حتى يرفق النوم بجفنيه. وكانت إذا أتى الشتاء واشتد البرد وسكبت السماء الدموع الباردة انكمش الفتى في الحجرة، فإذا خيّم الليل جاءت أخته كالعادة وجلست تقص له الحكاية تلو الحكاية على بصيص مصباح موضوع على النافذة الصغيرة، وكان يحدث أن تجلس أخواته كلهن يسمعن بدورهن، وكان يُسمى هذا الاجتماع «ناس في بعضينا»، وكان يجد فيهه لذة عظمى. لذة تصغر بجانبها كل لذة، لذة تملك مشاعره وإحساساته.

كم كان يلذه أن يرى العائلة وأخواته حواليه، يقلن القصص الجذابة الجميلة وهو يستمع إليهن بحواسه كلها. كان يحب «ناس في بعضينا» وينتظرها بفارغ الصبر، وكم يضحك الآن من نفسه لأنه يهوى العزلة والسكون بقدر ما كان يهوى «ناس في بعضينا» في الحجرة القديمة الصغيرة. وهو يتذكر الآن ولا ينسى.

ليته كان في الإمكان أن يعود يوم واحد من هذه الأيام أو ساعة واحدة، ولكن هذا هو المحال، وهذا هو الذي لا يُرجى منه استماع أو يُلبى نداء، فاليوم الذي يفوت يفنى للأبد ولا سبيل لعودته. أما ليالي الصيف الجميلة فكان يمضي كثيراً منها في السطح، فكانت والدته تفرش المرتبة في وسط السطح. وهكذا كان الطفل يمضي الكثير من الليالي نائماً على ظهره وعيناه متأملتان في السماء، ونجومها المتألقة وكواكبها المتلألئة وقمرها الزاهي. وكان يتأمل في كل ذلك، ويطيل التأمل حتى يسهو عما حوله وتلبث عينه على نجم ما، ثم ينام ومخيلته مفعمة لذة، ونفسه مترعة سروراً، لأن الجمال وسلطته سيطرا على دفة طفلنا الصغير.

أخبار ذات صلة

«إصدارات أدبية تسجل تاريخ الوطن» ندوة بالأرشيف والمكتبة الوطنية
«دبي للثقافة» تدشن «التبدّل والتحوّل» في مكتبة الصفا


وكان كثيراً ما يخشى الحشرات أن تؤذيهم وهم نائمون لا يمنع عنهم الأذى مانع، وكان كثيراً ما يسأل أمه في ذلك ويبثها خوفه، فكانت تجيبه بأن الله الذي يحفظ النملة ويرعاها في ثقبها، يحفظهم ويراقبهم من علياء سمائه ولا يمكن أن يصيبهم أذى، وكانت تتمتم «بسلام على سيدنا نوح في العالمين، وعلى سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى حاملات السم أجمعين، وتبارك سيدنا خالد بن الوليد، يا سيدي يا قرني يا صاحب اليمنى تمنع عنا جيشك وتنصب علينا خيشك - قريب لا يؤذينا وبعيد لا يأتينا بحق سيدنا محمد ساكن المدينة». وتقول له إنه إذا تلا هذه مرة أو اثنتين لا يمكن أن تقربه أي حشرة بسوء، فكان الطفل يتلوها معها، ثم ينظر إلى السماء كأنه يستعدي الله على الحشرات ثم يستسلم للنوم، فينام سعيداً مثلوج الفؤاد طيّب الخاطر، ولكن دعاه الفضول ذات يوم لأن يسأل أمه عن ذكرها لسيدنا نوح كلما خشيت الحشرات المؤذية وعلى الأخص الثعبان، فقصت عليه قصة نوح لما رجا قومه أن يؤمنوا بالله فسخروا منه، ووالوا عليه الإساءة حتى ضاق بهم ذرعاً وسلم أمره إلى ربه واستعداه على القوم الكافرين، فأرسل الله من عنده سيلاً عرماً اكتسح الأرض وأغرق من على سطحها إلا نوح ومن اتبعه من الأفراد القلائل، وكان نوح قد أعد قارباً شق به عباب الطوفان، وفي وسط الطريق شق ثعبان القارب ونفذ رأسه من بين ألواحه ثم أخرج لسانه مهدداً بالويل والشر، ولكن بقوة نوح الخفية وسره الإلهي استطاع أن يخضع الثعبان فاستكان له، وأبى ألا ينسحب حتى لا ينفذ الماء من الثقب الذي أحدثه جسمه، ولما وصل نوح إلى البر سالماً انسل الثعبان وذهب إلى حال سبيله.

وبعد أن انتهت من قصتها أكدت له أن جميع الثعابين خضعت لنوح فسيطر عليها كما فعل سليمان مع الجان، فلما مات نوح واندثر أثره وعفى اسمه لم تنسَ الثعابين ذكراه وأصبح لاسمه عليهم ما كان لشخصه نفسه، والإنسان الذي يستعيذ بنوح لا يمكن لثعبان أن يقربه أبداً، وهي لهذا لم تكن تنطق باسم الثعبان، ولكنها كانت تطلق عليه «سلام على سيدنا نوح» ثم لأجل الاختصار «سلام»، وعلى مر الأيام عُرف في المنزل باسم «سلام»، وكان إذا نسي شخص ونطق به على حقيقته نهرته الأم وصاحت به «ما تنطقش الأسماء الوحشة دي».

وكان الطفل يرتعب من ذكر الثعابين لأنها - كما قالت له والدته - تأتي إلى من يذكر أسماءها، ما زاد الطين بلة أن أمه كان تقص عليه حكايات خاصة بالثعابين أخص بالذكر الحكاية الآتية: حدث أن بَنَّاء وجد ثعباناً يتسلل بين الصخور فما كان منه إلا أن رفع فأسه وهوى به ففصل رأس الثعبان عن جسمه، وتمكن الرأس أن يهرب بلا جسم، وما زال يتربص بالبَنَّاء حتى يأخذ ثأره منه حتى عثر ذات يوم أثناء تجواله ببلغة البنَّاء فاختفى فيها ومكث ينتظر، فلما أتى البنَّاء وهم بأن يُدخل قدمه في بلغته انفتح الرأس وأفرغ ما كان به من سم في لحم البنَّاء المسكين حتى انتهى، فمات الرجل ومات الثعبان.

ترى هل قصت عليه تلك القصة لأنها كانت حقيقية أم لتحذره من شر الثعابين أم لتعظه ألا يعتدي على مخلوق لم يؤذه حتى ولو كان ثعباناً؟ لم يفكر الطفل في ذلك ولكن عمل بالمطلوب فخشي الثعبان، وحاول ألا يؤذي أحداً حتى لا تنقلب له الأحوال وتتنكر له الأمور.

كان عقل أمه مخترعاً في القصص، وكانت تلجأ إليها دائماً لتملك زمامه ولتخيفه وتردعه ثم لتفرحه وتسعده، وكانت لا تفتأ تحدثه عن الدين وعما وراء الطبيعة، فعرف في بدء تكوينه أن الله واحد لا شريك له في ملكه، قادر على كل شيء وأنه يسعد الطيبين ويدخلهم الجنة ويعذب الأشرار ويدخلهم النار، وعرف كذلك أنه يستطيع بالدعاء أن ينال خيراً كثيراً، وخصوصاً إن توسل في دعائه بالنبي أو بأحد أقربائه، وكان يكثر من التوسل بالحسين لأنه كان يحبه ويغرم به دون أن يعرف لذلك سبباً، كان يتصور الله كما يحب رجل الدين أن يتصوره كل إنسان، وكان يعظم النبي لدرجة لم يحلم بها نبي وكان يجل الأولياء بأكثر مما يستحقون، وهكذا نشأ متديناً إن صح هذا التعبير. وأكثر ما كان يسأل عن الجنة والنار، فكانت أمه تسهب له في الوصف والشرح فما تركت فاكهة أو نوعاً من الطعام إلا زرعته فيها، وما نسيت حشرة أو شيئاً مخيفاً إلا أكدت باستحالة وجوده في الجنة، أما النار فهي الهول والفزع والألم والخوف. كما كان يحب الجنة ويتمناها حتى إنه كان يفضل أن يموت ليظفر بالسعادة الأبدية خصوصاً لما علم أن الصغار لا يحاسبون على وزر أو ذنب، وأنهم يدخلون الجنة بلا حساب. وكانت كذلك لا تنسى أن تنبهه إلى الخير وتحذره من الشر والرذيلة، وهددته بالنار في الآخرة والعقاب في الدنيا، فتعب الطفل وارتعب، ومن هذا العهد أخذت تتكون في نفسه عاطفة الخوف والجبن حتى أصبحت شغله الشاغل، فكثرت أوهامه وتعددت مخاوفه، ولم تكن تقصد أمه أن تصيبه بشرٍّ ما ولكنها كانت تجهل التربية العظيمة، وكانت ضعيفة أمام شفقتها التي لا حد لها.

غداً: حلقة جديدة