أحمد المسلماني

المستشار السابق للرئيس المصري ـ مصر

نشرت مجلة نيويوركر الأمريكية كاريكاتيراً ذات يوم كان تعبيراً قوياً عن المعضلة الرقمية في العالم المعاصر، تضمّن الكاريكاتير كلباً يجلس إلى جهاز كمبيوتر ويكتب تعليقات على بعض الأشخاص .. ثم توقف الكلب قليلاً متردّداً من استخدام بعض الكلمات، فقال له كلبٌ ثانٍ يجلس إلى جواره على شاشة أخرى: لا تخف، اكتب ما تشاء، الإنترنت لا يعرف أنك كلب! يقضي عدد هائل من الكلاب الإلكترونية ساعات طويلة يومياً للهجوم على كثيرين. تارة عالم شهير، وتارة داعية معروف، وتارة رجل دولة أو صاحب مال وأعمال.

تتحدث «الكلاب الإلكترونية» من دون أي ضوابط، تكتب للاغتيال النفسي والتدمير المعنوي، لأجل تخريب الصورة والحطّ من شأن الهدف. إنها تكتب من دون أن تقرأ، وتنظّر من دون أن تعرف .. لا يعنيها سوى الانقضاض من أي طريق وبأي سبيل.

لا تخشى «الكلاب الإلكترونية» شيئاً لأنها تأخذ بنصيحة كلب «نيويوركر» الكرتوني: الإنترنت لا يعرف أنك كلب، وتحت ذلك الغموض يمضي «المجرمون المجهولون» ليرموا من يروْن رمايته بما يشاؤون.

إن من يقرأ تعليقات القراء على المواقع، أو يطالع كتاباتهم على فيسبوك وتويتر، أو يتأمل وجهات نظرهم على مقاطع يوتيوب اللانهائية .. سوف يذهل من ذلك النفوذ المتصاعد للكلاب الإلكترونية. إنهم يهاجمون الجميع من علماء الفيزياء النووية إلى قرّاء القرآن الكريم.

الخطر النفسي الذي تمثله هذه الظاهرة هو جدّ خطر، فالذين يقرأون يتأثرون، والذين يتأثرون قد يغادرون أو ينعزلون .. هنا تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، وتنجح مخططات المجرمين.

ثمّة نبأ جيد وسط ذلك الجحيم .. لقد بات هناك وجه آخر للصورة، فقد أدّى النشاط الكبير للكلاب الإلكترونية إلى التراجع التدريجي للتأثير، وأصبح في مقدور الكثيرين أن يدركوا أن الأمر لا يعدو أن يكون مرتبّاً ومنظماً، وأن هذه ليست تعليقات حقيقية، وأنها لا يمكنها أن تصمد أمام حقائق الأشياء وواقع الحياة.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


قال لي داعية كبير إنه أصيب بالاكتئاب من جرّاء حملة شنّها عليه المتطرفون، وإنه لزِم بيته حزيناً مع أسرته، ومقرّراً عدم الخروج خوفاً من ألسنة الناس ونظرات المشاة والعابرين، ثم كان أن اضطرته الظروف إلى مغادرة المنزل والسفر إلى خارج البلاد .. أعدّ حقائبه وبدأ المغادرة وهو متثاقل الخطى، يقدّم خطوة ويعود بأخرى، ثم كانت المفاجأة المذهلة: تقدّم كل من رأوه للمصافحة والتقاط الصور التذكارية، سمع الكثير من المديح والإطراء. كانت رحلته من المنزل إلى المطار أشبه بعودة بطل من ساحة المعركة، مؤيدون ومحبّون ومعجبون .. إشادة بعلمه وفكره، واحترام لمؤلفاته وأحاديثه .. لا شيء أبداً مما قرأه على الشبكة العنكبوتية أو رآه في عواصف التعليقات.

قال لي الداعية ضاحكاً: إذا كان كل هؤلاء يحبونني، فمن الذي يكرهني إذاً؟.

ستظل الكلاب الإلكترونية تنبح، وستذهب بنباحها مع مخلّفات الفُحش من القول، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. البقاء للأرقى.