حلمي النمنم

وزير الثقافة المصري السابق ـ مصر

استعان الإرهابي الأسترالي ببعض وقائع تاريخ العصور الوسطى لتبرير الإقدام على جريمته في مسجد النور بنيوزيلاندا، توقَّف في رسالته المطولة التي كتبها عند مشاهد من الحروب الصليبية، ثم حصار الجيش العثماني لمدينة «فيينا»، وبعض الأحداث الأخرى من التاريخ العثماني.

قبله وفي سنة 2015، حين أحرق تنظيم داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة أصدر بياناً استعان فيه ببعض الوقائع من التاريخ الإسلامي لتبرير جريمته البشعة أيضاً؛ على الرغم من أن لكل واقعة ظروفها الخاصة التي لم تعد قائمة اليوم.

والواضح أن المتطرفين في العالم كله، من مختلف الديانات والثقافات يبنون مواقفهم وأفكارهم على وقائع بعينها جرت في التاريخ، واعتبروا حدوثها أمراً مقدساً، يجب الالتزام به والسير عليه.. هؤلاء يجعلون من التاريخ مسوغاً للعنف والإرهاب، وكراهية الآخرين، الحياة لديهم تقوم على البغض والكراهية، بغض المختلف والمخالف لهم، سواء في الدين أو المذهب أو البلد والموطن أو لون البشرة وهكذا؛ ولذا نجد من يختزلون العلاقة بين الإسلام والمسيحية في مشهد الحروب الصليبية، ويتجاهلون أنه حتى في هذه الحروب، كانت البيوت التجارية بين شمال المتوسط وجنوبه تعمل بانتظام ولم تتوقف، وفي هذه الحروب بدا صلاح الدين نموذجاً للتسامح، وحدث تأثر ثقافي كبير بين العرب والأوروبيين، رصدته العديد من الدراسات، سواء الأوروبية أو العربية، راجع مثلاً كتاب عبدالرحمن بدوي «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي».

المتطرفون يعتبرون التاريخ مقدساً، ولا يختارون من التاريخ سوى المشاهد الدموية، فيصبح عبئاً على الجميع، التاريخ فعل إنساني محض، يعكس ظروفاً معينة وتقديرات ومواقف محددة لدول أو أفراد ومجموعات، وأحياناً يكون القرار انعكاساً لحالة مزاجية لدى شخص بعينه، ومن ثم فإن التاريخ كان ذات يوم قراراً سياسياً أو إدارياً اتخذه مسؤول ما، أو مجموعة بعينها، وهذا القرار لا ينبغي أن يكون ملزماً لأفراد أو مجتمعات جاءت بعد مئات السنين من صدور ذلك القرار.

لا يعنى هذا أن نهمل التاريخ ولا أن نتجاهله، بل علينا إعادة قراءته باستمرار للاستنارة وللفهم، قراءة نقدية واعية، وليست قراءة التلقين والاستظهار.

في التاريخ قتل قابيل هابيل، وتآمر أخوة يوسف عليه لإزاحته بالقتل أو بالإخفاء، وقد قدّم لنا القرآن الكريم القصتين، باستفاضة وإدانة أيضاً، حتى لا يكون الفهم أو معنى هذا أن يقتل الأخ أخاه، ولا أن يتآمر الإخوة على أخ لهم، نحن ندرس هذه الوقائع لنتجنب تكرارها؛ وهكذا الحال بالنسبة لكثير من الوقائع والمذابح التي جرت في التاريخ، فيجب ألا نكررها ولا نستنسخها.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟