عماد أحمد العالم

كاتب فلسطيني مقيم في السعودية

يعد الاقتصاد الاستعراضي جزءاً من بنية الاقتصاد السياسي الحضري، الذي جاء كنتيجة للنيو ليبرالية التي تتسم بنزوع شديد نحو التملك مشكلةً نموذجاً للتنشئة الاجتماعية لشخصية الإنسان الذي يعيش في عصر ما بعد الحداثة الرأسمالية المفرطة، التي عملت على استثمار الفائض في المال والإنتاج بإنشاء نمط استهلاكي جديد لم تعرفه المدن الحضرية من قبل ولا سكانها، حيث قامت أولاً بإحداث تغييرات جذرية في شكل المدن وإعادة بناءها عمرانياً عبر التمويل بالدين، كي تستوعب قوى عاملة تعاني من البطالة وفائض مالي تمثله تكتلات رأسمالية وتحقق في نفس الوقت أهدافاً سياسية.

مثال على ذلك حضرنة باريس، التي أشرف عليها البارون أوسمان الذي خطط للشكل الحديث لها بإيعاز من لويس بونابرت عقب انقلابه عام ١٨٥١، وذلك بهدف تكريس حكمه السياسي القمعي لمعارضيه، عبر إحداث تحولات اجتماعية تستوعب أي ثورة مضادة، فأعلن عن برنامج استثماري ضخم في البنية التحتية، والذي يشمل إلى جانب إعادة تشكيل البنية التحتية لباريس؛ بناء المرافئ وتطوير السكة الحديد وتجفيف المستنقعات المائية، التي راعى فيها المصمم والمشرف خلق بيئة حضارية جديدة يستطيع الحاكم والمسؤول أيضاً السيطرة الأمنية على العاصمة التي شهدت قبل ذلك عدة ثورات.

حوّل أوسمان باريس لمدينة الأنوار فأعاد تصميم الأحياء بها وألحق بها الضواحي، فغدت مركزاً للاستهلاك والمتعة والسياحة والأزياء، مع تغير في نمط وسلوك سكانها صوب الاستهلاكية النهمة، فقضت كما شعرت طبقات من المجتمع الباريسي آنذاك على حضرية المدينة المعهودة سابقاً وأوجدت بها حياة فاقدة للروح ببعض أحيائها. تكررت نفس التجربة في نيويورك في النصف الأول من القرن العشرين ولحقتها تجارب مماثلة في المكسيك والصين والهند وإسبانيا وبريطانيا وغيرها من الدول التي ظهرت بها مؤسسات مالية تم إنشاؤها مع ترتيبات لتنظيم الائتمان المالي المطلوب لاستمرارها.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟

نتج عن عملية الحضرنة السابقة تحولات هائلة في أسلوب حياة ساكني تلك المدن، ونشأ على إثر ذلك ثقافة شرائية جديدة قائمة على سلع كرست مفهوماً مستحدثاً اسمه «جودة الحياة»، نشأ على إثرها أسواق متخصصة لهذا النمط الاستهلاكي المخصص لمن يمتلك القدرة المالية، فظهرت مطاعم الوجبات السريعة متعددة الفروع وثقافات البوتيك ومراكز التسوق، في ظاهرة جديدة سمتها عالمة الاجتماع المتخصصة بالحياة الحضرية الحديثة الأمريكية شارون زوكين «تهدئة الفتن بالكابتشينو».