د.عماد الدين حسين

في أحد أسفاري الطويلة على متن الطائرة، نحّيت الكتاب جانبًا وأدرت الشاشة الصغيرة أمام مقعدي، لأجدني أمام الفيلم المصري (فوتوكوبي) من الوهلة الأولى تجدك في رحلة مع آلة الزمن إلى فترة الأبيض والأسود.

بطل الفيلم محمود حميدة (عم محمود)، خمسيني يحبو نحو العتبات الستينية، كان يعمل في مطبعة إحدى الصحف إلى أن قذفت به الحياة بعد خروجه إلى المعاش المبكر، ليفتتح محل تصوير مستندات (فوتوكوبي محمود) في منطقة (عبده باشا) القاهرية العتيقة.. ينقلك الفيلم إلى مشهد آخر، حيث يتعاطف (عم محمود) مع جارته (السِّت صفية)، الخمسينية التي تعيش وحيدة بعد هجرة أولادها، وصراع يومي مع مرض السكري وشبح السرطان، في شقة تعلو محل (عم محمود)، وفي كل زيارة إلى الصيدلية يكون لها لقاء عابر عن الذكريات والحنين للزمن الجميل تتشاركه مع (عم محمود).

قد تبدو الحبكة الدرامية للفيلم عادية، وربما أقل من عادية، ولكن ما حولها من إيقاع بطيء لحياة بين ضفتي الافتقاد والاشتياق تجعل المشاهد يتوجّع لحال (عم محمود)، وهو يلهث في البحث عن هويته على الكمبيوتر للإجابة عن سؤال محوري: لماذا تنقرض الديناصورات؟ فقد أدرك أنه ديناصور نجا من الاندثار، وبقي يحيا حياة الجمود في غياهب الذكريات بما تحمله من آمال وآلام.

وتجحظ عيناك أمام لافتة محله الباهتة المكتوبة بخط اليد، تعبر عن زمن قد ولّى واندثر، فلم يبقَ منه إلا شعور بأنك حتمًا خارج إطار هذا الزمان.. إنه صراع أزمنة متضادة، ويتوجّه (عم محمود) إلى بيت الرجل الذي كتبها له منذ سنوات طويلة لإصلاحها، فيجده غادر الحياة، فيلتقي بابنه الذي يتعجب من وقوع (عم محمود) في أسر الماضي إلى حد التوحد والتقادم.

ما أثقل الذات حين يدرك الإنسان أن (لغته) و( صنعته) و(عملته) و(عمره) و(جيله) قد غادرت وبقي هو وحيدًا كمن نجا بمفرده من باخرة (التايتنيك)، ليعيش مرارات غربة المكان والإنسان والزمان، وقيم مجتمعية غريبة لم يستطع أن يتعايش معها، وبقي قلبه نابضًا وحالمًا بعفوية الزمن الجميل.

في كل إصباح يزداد عالمنا بأعضاء جدد ينضمون إلى نادي التقادم والافتقاد والاشتياق بعد غربتهم في عوالم أقرب إلى انتحار حضاري، وغياب قيمي، وتراجع إنساني، وحضور غيابي، وصقيع بلا شتاء، وقيظ بلا صيف.. فطوبى لهم!

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟