مارك لافيرني

الحريق الذي شبّ في كاتدرائية سيدتنا العذراء في باريس روّع العالم واستثار العواطف والأحاسيس، وهو يذكرنا بمدى أهمية الماضي واعتزازنا به بالرغم مما كان يشوبه من عوامل التوتر التي كانت توحي بمستقبل مبهم، وكانت وراءه تلك التكنولوجيات الجديدة بما تنطوي عليه من أخطار تهدد مستقبل كوكبنا بالدمار الشامل في بعض الأحيان بسبب احتمالات استخدامها بطرق منحرفة، إلا أن آراء المعلقين تؤكد أكثر على القيمة السياحية لهذا المعلم التذكاري الذي يجمع أكثر من 12 مليون سائح سنوياً يتوافدون إليه من كل أنحاء العالم بالرغم من اختلاف عقائدهم الروحية، ويقصدونه لأسباب سياحية بأكثر مما يجمعهم حوله الإيمان أو الجمال أو العظمة التي يوحي بها.

كما أن الإيمان الروحي الذي أدى إلى ظهور هذا المعلم الحجري العظيم إلى حيز الوجود، والتقنيات التي ابتُكرت والوسائل والأدوات التي استُخدمت لتجسيد هذا الصرح الأبدي، أصبحت تلامس مشاعرنا بقوة من خلال قيمتها الثقافية وإحساسنا الشخصي بالجمال.

وهذا المستوى من عظمة الإيمان، بل وهذه المعجزة الإيمانية، كانت مشتركة بين أسلافنا الذين بنوا الأهرامات في مصر وتماثيل بوذا في باميان أو معبد بعل في تدمر. وهذه المعالم المذكورة سابقاً دمرتها ميليشيات طالبان أو برابرة «داعش».

وما هذا إلا تذكير بما ندين به لأسلافنا من منجزات حتى قبل الإيمان بوحدانية الإله من خلال الدعوات التي نزلت على الأنبياء والرسل، ولهذا السبب يكون من واجبنا ألا نرفضهم وندخل بعد ذلك في ظلمة الجهل، وما هذا التطور الذي ننعم به اليوم إلا الثمرة التي أتت من حكمة أولئك الذين وقعوا أسرى لحب التطور وتقدم العلم، وقاموا ببناء المعابد ونحتوا القبور، ونزعوا إلى تمجيد الكاتدرائيات والمساجد التي بنوها حتى تكون أبدية في معانيها الروحية.

كما أن هذه المعالم الأثرية تقف شاهدة على وحدة الجنس البشري بالرغم من التحديات والصراعات التي يشهدها، وهذه المعجزة الهندسية والجمالية التي ظهرت بشكل مفاجئ إبان أواسط العصور الوسطى في أوروبا، لا شك أنها تعود لازدهار الفنون والعلوم التي جلبتها الحملات الصليبية إلى أوروبا، وربما كانت تمثل الهدف الأساسي لتلك الغزوات المسلحة لبلدان المشرق التي كانت قد بلغت مستويات من التطور والتقدم تفوق ما بلغته الممالك الأوروبية كلها.

وكان الاحتلال الذي دام قرنين للأرض المقدسة هو الوقت المناسب لإطلاق خطوط التجارة الرابحة، وتحققت خلاله الانطلاقة الثقافية بأكثر مما حدث في كل الحروب الأخرى، وتجسدت فوائده بتحسن الأوضاع الاقتصادية والثقافية على ضفتي البحر الأبيض المتوسط وامتدت إلى البلدان التي تقع وراءهما، ولا شك بعد كل هذا في أن عناصر الأبهة التي تجسدت في الكاتدرائيات الرائعة التي تنتشر في أوروبا كلها، والتقنيات التي استخدمت في بنائها، ليست إلا عرفاناً بعوامل التقدم والازدهار التي تم استقدامها من الشرق.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟