حلمي النمنم

جرجي زيدان مسيحي أرثوذكسي ولد في سوريا، ثم سافر إلى مصر سنة 1883 ليدرس الطب في كلية القصر العيني، فاتّخذها له وطناً، وعدل عن الطب ودراسته، واتَّجه إلى البحث والكتابة في التاريخ الإسلامي، وأسَّس مجلة «الهلال» سنة 1892، وأصدر أكثر من عشرين رواية عن تاريخ الإسلام، وفي سنة 1910 أصدر الجزء الأول من كتابه المتميز «تاريخ التمدن الإسلامي»، التي وصلت أجزاؤه إلى أربعة.

تاريخ التمدن يمثل نظرة وفهماً جديداً للتاريخ الإسلامي، وقف به زيدان في وجه كثير من المستشرقين وبينهم المغرض والكاره للإسلام ذاته ولحضارته، هؤلاء أكدوا للرأي العام في أوروبا أن تاريخ الإسلام ليس سوى تاريخ السيف والحروب أو الغزوات.. اعتمد هؤلاء على بعض المؤرخين المسلمين، الذين قدموا «تاريخ المغازي» وقصص الفتوحات، واعتبروا أن ذلك كل شيء عن الإسلام والمسلمين، وكان رأي زيدان أن الجانب العسكري والحربي في التاريخ ليس سوى جانب منه وقد لا يكون أساسياً، يقول في مقدمة تاريخ التمدن: تاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، ويقول أيضاً: «تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى»، ويضيف كذلك: «البحث في تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعه الملك والعظمة والثروة، ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها، ويدخل في ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولوازمها».

كان الكتاب فتحاً جديداً في مجال دراسات تاريخ الحضارة الإسلامية، وقد استقبل باهتمام كبير من الباحثين والمؤرخين، العرب والأجانب على السواء، وهناك من وجّه إليه المدح والثناء، كما أبدى عدد من الباحثين بعض الملاحظات والانتقادات عليه، لذا اختلفت طبعته الثانية عن الأولى، حيث توسع فيه بالإضافة والتعديل.

غير أن بيننا من نظر إلى المشروع بريبة شديدة؛ عن تصور أن التاريخ الإسلامي لا يعالجه غير مسلم، وإذا فعل غير المسلم ذلك فإنما لغرض شرير، وهكذا اتهم هؤلاء زيدان ولا يزالون بأنه يدس «السم في العسل»، وأنه قصد الإساءة إلى تاريخنا ومن ثم إلى ديننا، وهناك من يردد ذلك إلى اليوم في بعض جامعاتنا ومجلاتنا الثقافية والأدبية.

وفي زمن «الإسلاموفوبيا» ورمي الإسلام بالإرهاب، واعتبار المسلمين جميعاً إرهابيين وخطراً على الحضارة الحديثة، نحتاج لمن يذكر العالم ويذكر المتشددين بالتمدن والتحضر الإسلامي، الذي شعت أنوراه على أوروبا الوسيطة، وساهم في دخولها عصر النهضة ثم عصر التنوير، كما فعل جرجي زيدان قبل أكثر من قرن.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟