فاروق جويدة

شاعر وكاتب صحفي ـ مصر

شجعني النجاح المذهل لمسرحيتي «الوزير العاشق»، التي تحكي الساعات الأخيرة للحضارة الإسلامية في الأندلس، أن أخوض تجربتي الثانية في مسرحية «دماء على ستار الكعبة»، وتحكي قصص الطغاة في تاريخ العرب والمسلمين من خلال أشهر طاغية عربي في التاريخ وهو: «الحجاج بن يوسف الثقفي»، الذي تجرَّأ وهدم الكعبة وقتل أكثر من مائة ألف شخص في سنوات حكمه التي امتدت 18 عاماً.

كانت مسرحية الوزير العاشق قد جمعت سميحة أيوب سيدة المسرح العربي، وعبدالله غيث بكل تاريخه، ومخرجاً شاباً هو: فهمي الخولي، أما مسرحية «دماء على ستار الكعبة»، فقد قام بدور الحجاج فيها الممثل القدير يوسف شعبان أمام سميحة أيوب أيضاً، وأخرجها د. هاني مطاوع رحمة الله عليه.

تجرأت ودعوت فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي لكي يشاهد مسرحية دماء على ستار الكعبة على خشبة المسرح القومي.. وسألني: كم اصطحب من الأصدقاء؟ قلت: العدد الذي تريد.

استعد المسرح القومي لاستقبال الشيخ الشعراوي .. كنا نعلم أن الرجل لا يذهب إلى المسارح، وربما كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها مسرحية على خشبة المسرح القومي.

حين ظهر الشيخ الشعراوي أمام المسرح القومي توقفت حركة المرور تماماً، وترك سائقو الأوتوبيسات أماكنهم، وهبط الركاب واندفعت الحشود في ميدان العتبة نحو الشيخ، الذي وقف يلوّح لهم والأعداد تزداد مع الوقت، والكل يصيح: الشيخ الشعراوي في العتبة.

كنت أنتظر على باب المسرح، وتدخلت الشرطة لتحمي الشيخ وضيوفه القادمين، وكانت ليلة من ليالي القاهرة الجميلة، والأحاديث كلها تدور حول مشاهدة الشعراوي لمسرحية فاروق جويدة في المسرح القومي.. كانت زيارة الشيخ الجليل للمسرح القومي حديث الإعلام المصري بل والعربي، وكلها تجيب عن هذا السؤال: من قال إن الفن حرام؟.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


  كانت زيارة الشيخ ومشاهدته مسرحية شعرية حدثاً دينياً أمام دعوات التخلف، التي تقول: إن الفن حرام، كما كان حضوره حدثاً فنياً حين اقتحم المسرح مئات الأشخاص لا يريدون مشاهدة المسرحية فقط، وإنما مصافحة الشيخ الجليل أيضاً.

شاهد الإمام المسرحية، وحين أراد الخروج من المسرح كانت الحشود البشرية قد أغلقت كل الأبواب، وتجمَّع أمام المسرح  في ميدان العتبة ـ بالقاهرة ـ الآلاف، وهذا بعد أن توقف المرور تماماً.. كان على إدارة المسرح أن تبحث عن باب يخرج منه الشيخ.. وقررت فتح باب الطوارئ في المسرح وهو يصل إلى مكان آخر بعيد عن هذه الحشود.

 في اليوم التالي اتصلت بالإمام أشكره على تشريفه مسرحيتي، وكان قد صافح قبل أن يمضي كل العاملين فيها.. قلت له لقد أسعدتنا  زيارتك،  فقال: بعد أن رجعت إلى البيت، دعوت لك وصليت ركعتين، عسى أن يتقبل الله منا جميعاً. 

وفي سياق متصل، أذكر أنه حين أطلق كاتبنا الكبير توفيق الحكيم صرخته المدوية، التي اهتزت لها أركان الحياة الثقافية في مصر تحت عنوان «حديث مع الله» في جريدة الأهرام، وكان الحكيم يسير على خطى كتّاب كبار في الغرب اقتربوا كثيراً من الذات الإلهية، واعتبر البعض ومنهم الشيخ الشعراوي أحاديث الحكيم تجاوزاً، خاصة أنه كان يتندر أحياناً في بعض حواراته، ودارت معركة شارك فيها يوسف إدريس وتطاول على الشيخ الجليل، ود. زكي نجيب محمود، ونسي هؤلاء جميعاً أن ما كتبه الشعراء في الغرب يختلف تماماً عن حوارات الحكيم لأن ملتون في «الفردوس المفقود»،  ودانتي في «الكوميديا الإلهية»، وحتى أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران» كانوا يناقشون قضايا الكون والحياة والإنسان.. وربما كانت هذه هي آخر معارك الإمام الشعراوي مع النخبة من رجال الفكر، قبل أن يلقى ربه.