خالد عمر بن ققه

القول بالإنسان الكوني أو العالمي هو محاولة لتطويع البشر ودفعهم نحو السراب

من أمتع اللحظات عندي أن أطالع كتاباً والأمطار تنزل، و«الريح تعوي خلف نافذتي» كما قال الشاعر نزار قباني في قصيدته «عقدة المطر».. عشت تلك المتعة لسنوات قبل أن أدرك أهميتها على مستوى الوعي منذ أربعة عقود خلت، حينما كنت أقرأ ذات ليلة على ضوء الشمعة، كتاب «الإنسان العربي والحضارة» للمؤلف أنور الرفاعي، مستغرقاً في قراءة تاريخ العراق.

ليلتها أخذني الاستغراق الوجداني بعيداً، حتى أنني لم أعد لحظتها ابناً للمكان، حيث قريتي في الجزائر، وغدوت ابناً للحضارة والزمان.. وتساءلت بعدها ـ وعلى طول سنوات العمر الماضية ـ ولا أزال: هل نحن أبناء الزمان أم المكان؟

يبدو أن الكفة راجحة هذه الأيام لصالح الزمان، ما دامت البشرية جميعها تتجه اليوم نحو ما بات يعرف بـ «الإنسان الكوني».

في زماننا، يُعاد النظر في علاقة البشر بالمكان، وبالأوطان تحديداً، لدرجة يُخيل لي فيها أحياناً أن هناك خصومة ترقى لدرجة النفي والجحود، لأولئك الذين ضحوا على طول تاريخنا حتى نكون نحن اليوم أحراراً، صحيح أن العلاقة المتوترة مع الأوطان آتية من شظف العيش ومتاعب الحياة وغياب حرية التعبير، لكنها بمقاييس الماضي القريب، لم تعد شيئاً يذكر.

ومع ذلك فإن اللجوء إلى زمن الآخرين باعتباره خياراً محموداً لدينا يتم داخل أوطانهم، أي داخل فضاء مكاني، يجبرنا نحن على ترك أوطاننا قرى خاوية على عروشها، ومن هنا يأتي طمع الآخرين المتواصل فينا.

العودة اليوم أصبحت حتمية، فبيئتنا العربية في مجملها ليست مُنفرة، وهي صانعة حضارة، وبإمكان أهلها اليوم أن يكونوا جزءاً من مدنيّة العالم وهم في أوطانهم.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


والقول بالإنسان الكوني أو العالمي هو محاولة لتطويع البشر ودفعهم نحو السراب حتى إذا ما وصلوا إليه لم يجدوا شيئاً، واكتشفوا أنهم ضحايا على المستوى الجمعي لضرورات الاختلاف والتباين بين ثقافات الأمم والشعوب، وتحول التعارف إلى قبول إكراهي للآخر، وهذا لا يقل في خطورته عن قراءات الجماعات الإرهابية التي أحلّتنا دار البوار، بل إنها اعتقدت وهماً أن العيش في كنف الزمن الماضي هو البديل الفعلي للحاضر، بل إنه حماية لها من طوفان انهيار القيم، وكانت النتيجة أن تركت من خلفهما حين هزمتها قوى الحاضر أبناء شرعيين ـ وغير شرعيين ـ لا مكان لهم لا في الزمان ولا في المكان.