د. انتصار البناء

كاتبة وناقدة ــ البحرين

المرشدة السياحية الشَّابة التي رافقتنا في جولة في مدينة موسكو للتعرف إلى الآثار السوفياتية فيها، قادتنا إلى أول فرع لمطعم «ماكدونالز» كأحد المعالم التاريخية الهامة، وقد عبَّرت عن فخرها بهذا المعلم وعن إعجاب الكثيرين بشخصية الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف المنفتحة التي سهلت افتتاح «ماكدونالز» في موسكو.

استطردت المرشدة قليلاً، وقالت: نحن نعتبر غورباتشوف أفضل الرؤساء السوفيات، لأنه كان واقعياً ومتجاوزاً لعصره، ولكني أعرف أن كثيرين ينظرون إليه على أنه عميل أمريكي.. همس أحد الأمريكان الذي صاحبنا في الرحلة مبتسماً: لقد كان كذلك فعلاً!

رفعت المرشدة السياحية صورة صادمة للزحام الذي رافق افتتاح المطعم، لقد كان الناس متلهفين للطعام الأمريكي السريع، ثم قلبت الصورة على الوجه الآخر الذي يصور الزحام التقليدي عند ضريح لينين حيث كان يحتشد الناس للسلام عليه. وقالت: الصورتان لا تختلفان عن بعضهما، وقد يكون نفس الأشخاص المحتشدين عند ضريح لينين هم أنفسهم المحتشدون عند أبواب ماكدونالز.

كانت سخريتها من (الرفيق) لينين واضحة، وهي ذات السخرية التي عبر عنها أكثر من مرشد سياحي شاب، دون الثلاثين، ممن رافقونا في الجولات السياحية في موسكو.

موسكو مدينة ملهمة للأشخاص الذين يستشعرون الأرواح العابرة، ففي المنطقة التي يتوسّطها مسرح البولشوي، وتطلّ على الساحة الحمراء تستطيع بكل شفافية أن تستشعر أثر القياصرة، وكيف تأقلمت بكل مرونة مع الحقبة السوفياتية دون أن تفلت منك اللحظة الراهنة من الفخامة الروسية.

تزاحم بوتيكات العلامات التجارية والسيارات الفاخرة من كل الشركات يصيبك بصدمة تذكرك بانتقام التاريخ، فموسكو عاصمة التجربة الاشتراكية الأولى، ودون كل المدن الأوروبية تعيش الذروة الرأسمالية الاستهلاكية كأي مدينة خليجية مرفهة!. فماذا حدث؟!!.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


لم يستطع المرشدون السياحيون الشباب أن ينكروا الإنجازات السوفياتية في بناء دولة عظمى، ورثت من القياصرة الفقر والجهل والإقطاع، لكن الهاجس الذي ترك علامة غائرة في وجدانهم هو الصورة الثقافية والسياسية للحقبة السوفيتية، التي لم يعاصروها، كالدولة البوليسية والأيديولوجيا الأحادية المفروضة على كل الشعب، ونمط العيش الاقتصادي الذي تماثل فيه الجميع، والعزلة عما يحدث خارج البلاد التي جعلت من مطعم ماكدونالز حلماً ثم معلماً تاريخياً ذا دلالة.

لقد كانت تلك بعض المداميك التي فتت الاتحاد السوفيتي وجعلته نهباً لعصابات المافيا، التي تاجرت بالسلاح واليورانيوم والنساء، وتركت أثراً رأسمالياً فاقعاً في موسكو، يجعل من العصي على زائر تلك المدينة المذهلة أن يلملم شتات التاريخ المأتلف، ذاتياً، فيها.