د. شهد الراوي

لاند سكيب

يقول كاتبي المفضل ميلان كونديرا: «تحدثُ في العالم عند كل ثانية مليارات الصدف، وأنا أحلم بتأليف كتاب ضخم في هذا الموضوع»، وفي روايته «الخلود» يروي حكاية حصلت معه: «بينما كنت أسير مؤخراً في شارع مغمور بأحد الأحياء في باريس، وقعت عيني على امرأة من هامبورغ كنت أراها كل يوم تقريباً قبل خمسة وعشرين سنة ثم اختفت، كنت أسير في هذا الشارع لأنني نزلت خطأ قبل محطتي التي أقصدها، أما هي فكانت قد حلت بباريس لقضاء ثلاثة أيام وتاهت، فكان احتمال لقائنا هو واحد من مليار!»

وبالطبع، فإن كونديرا لا يُصدق حسب قوله أن الصدفة التي تحدث في حياة الإنسان غير مقيدة بحساب الاحتمالات، ولكن ما هي نسبة وقوعها؟ لا أحد يعرف، فنحن نعيش الجانب الجميل من حياتنا بالمصادفات التي وحدها تحررنا من الروتين، فالأحداث التي لا نتوقعها هي التي تُحرّف مسيرة يومنا باتجاهات جديدة، فكم من مرة تصادَف فيها أن التقينا بأصدقاء من طفولتنا، كنا نحسب أن اللقاء بهم أصبح مستحيلاً وضرباً من خيال الحسابات والرياضيات و»الزمكان»! وكم من مرة أعجب أحدهم بفتاة وغابت عن عينه ليعثر عليها صدفة، ثم تتطور هذه اللحظة إلى حياة مشتركة بينهما!، وكم من مرة ولدت صداقات وعلاقات من مجرد مصادفة الجلوس على مقعدين متجاورين في القطار أو الطائرة!

وفي روايتي التي أنا بصدد الانتهاء منها، كلما هممت ببدء رأس السطر بعبارة: «وفي هذه الأثناء..»، تتدخل الصدفة وتغير مجرى الأحداث، فبدل أن تسافر بطلتي تجد نفسها عالقة ومحتجزة في المكان، وأحياناً أكتب: «بينما كانت في طريقها»، تقفز إلى رأسي جملة جديدة لم أكن أتوقعها وتصنع فرصة جديدة لتطوير هامش الحكاية.

إن الحياة بحد ذاتها رواية تقوم على مليارات المصادفات كما يقول كونديرا، ولو خصصنا ساعة من وقتنا كل أسبوع لإحصاء المصادفات، لوجدنا أن أغلب ما يحدث لنا هو خارج مخططاتنا، وليس لنا في مجراه إلا مجاراته.

وطبعاً فإن للصدفة جانبها الحزين أيضاً، فلو تأخرت بطلتي ثلاثين ثانية فقط، لما وصلت إلى أماكن كانت ضمن خططها اليومية، ولا وقع أهم حدث في حياتها بعد ولادتها.

كتبت هذا المقال لأنني فتحت رواية «الخلود»، وبالصدفة ظهر الفصل الذي يتحدث عن الصدفة وعن سطوة الأحداث غير المتوقعة، التي تغير خططنا في كل يوم، فأحياناً نجد أنفسنا ضمن أطر لم نتخيل أبداً أنها ستقابلنا في يوم قد يكون أبسط من قضاء نهاية أسبوع على السرير، ولكن الصدف والمصادفات تتدخل إيجاباً وسلباً، وليس لنا إلا أن نسايرها إلى الأبد والخلود.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟