مالك العثامنة

أوائل الألفية، كنت في الولايات المتحدة وعشت فترة من الزمن على نية استقرار لم يكتمل في شمال ولاية نيويورك، بمنطقة ريفية نائية، وكان لي جار اسمه «ريتشي»، كان محارباً سابقاً في فيتنام، وعمل بعد ذلك سائق شاحنة، ثم تقاعد ليمارس هوايته في جمع الأسلحة، (وقد أكد لي أنها مرخصة مع ابتسامة تشكيك بكل تأكيداته).

كان ريتشي يكره العرب والمسلمين بالجملة، (والأتراك أيضاً عنده هم عرب، وكل ما سبق ذكره هم مسلمون مثل بن لادن حسب تصنيفات ريتشي).

لكن بعد حوارات بسيطة وتماسٍّ مباشر بيني وبينه، صار الرجل يستلطف الحديث معي، لكن قناعاته لم تتغير.

مرة، في إحدى جولات صيد مشتركة بيني وبين الرجل، باغتني بسؤال عن صدام حسين (كان لا يزال فاراً ومختبئاً)، وكان سؤاله: (هل تعتقد أن قواتنا عاجزة عن إيجاد «سادام هوسين» في تلك الكهوف في أفغانستان؟) ثم أضاف: (سنجده، حتى لو حاول الإيرانيون الأوغاد تسليحه بالنووي سنجده ونصيده).

حجم الأخطاء في سؤاله، يعكس حجم المعلومات المضللة التي تعرض لها ريتشي وهو نموذج لملايين الأمريكان، الذين يحصلون على وجبتهم الإخبارية في كبسولات مكثفة لا تتجاوز الدقائق عبر التلفزيون، وهي كبسولات تغطي أخبار العالم كله مما يجعل الشرق الأوسط بكل ما فيه محشوراً في مدة زمنية قدرها دقيقة على الأكثر.

في المقابل، كان الإعلام الأمريكي والغربي الحديث، يفرد مساحات واسعة وشاسعة من الحوارات والبرامج المتعلقة بما سمي بالتصويب السياسي، وهو ليس تصويباً سياسياً بقدر ما كان عبثاً فكرياً، استغرق فيه الخبراء جل وقتهم في تصحيح مفردات مجتمعية ومفاهيم اجتماعية حتى غلبت على كل شيء آخر.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


كانت الليبرالية تتوسع أفقياًّ بهذا الاتجاه فيصبح الدفاع عن تسميات معينة للملونين أو الدفاع عن حقوق المثليين، وحتى طرح ساعات الحوار حول أضرار السيجارة على ثقب الأوزون، أهم من بيان حقائق أكثر أهمية في طياتها دماء بشر وأرواح ناس ومصائر أمم.

في المحصلة، كان ريتشي وملايين مثله يحملون نفس المعلومات المضللة وهؤلاء تحديداً الذين تحولت خيبة أملهم في فترة وعهد الرئيس السابق أوباما إلى أصوات انتخابية غاضبة، انتهت إلى انتخاب الرئيس ترامب، وتوجهت نحو اليمين المحافظ رداً على عبثية الليبرالية.

لذا، حين توجه مجتمع محافظ مثل المجتمع الإنجليزي لانتخاب بوريس جونسون، فإنني أجدني أقرأ نفس القراءة بأن القصة برمتها انتقام وخيبة أمل من إخفاقات العبثية الليبرالية طوال سنوات، لا قناعات بجدوى برامج اليمين.. وهو ما أراه كارثة بحد ذاتها إلى أن يعود العقل إلى العالم.