د. واسيني الاعرج

العقلية الأندلسية عرفت كيف تجعل من ثقافة الآخر سنداً حضارياً وليس عدواً

مرّ عيد الأضحى بسرعة كبيرة لدرجة أنّه لم يمهلنا فرصة الاستمتاع به، وعجّت المواقع الاجتماعية بالمعايدات، أبطالها خرفان من الدمى والصور المتحركة، والأشكال المضحكة الساخرة وهذا جزء طبيعي من الاحتفالية الافتراضية.

كما امتلأت المواقع بصور الخرفان الحقيقية بعد ذبحها، وسلخها، وتعليقها على الحيطان، وفصل قوائمها، في مشاهد دموية لا رومانسية فيها، مع نسيان كلي للبعد الرمزي للأضحية الذي أنقذ الإنسان من الموت وعوضه بالقربان الحيواني كما في الكثير من الثقافات، وكما في كل عيد فقد استعاد المسلمون، وربما غيرهم أيضاً، لحظة الفرح.

إن الدين ليس عبادات فقط، لكنه أيضاً فرصة كبيرة للأفراح وتعميمها، وتقاسمها في ظل التعددية الدينية والإيمانية التي لا تمنع الفرح من التجلي، فعيد الميلاد ورأس السنة مثلاً، هما عيدان دينيان مسيحيان في الجوهر، ولكن سلطان القيم جعل منهما فرصة لفرح سنوي كبير تذهب نحوه البشرية برمتها.

وعلى الرغم من أن المسلمين يشكلون اليوم نسبة بشرية ودينية واسعة عبر العالم، إلا أن أعيادهم بقيت في الأغلب الأعم، حصراً عليهم.. لماذا؟، هل فشلوا في صناعة الفرح الإنساني حتى يقاسموه غيرهم؟، هل أثر الإرهاب الذي يتخفى وراء الدين الإسلامي الحنيف في رؤية الآخر للمسلم، فاختزله في صورة الإرهابي من خلال خلفية حربية صليبية؟، هل هي الحروب التاريخية التي فرقت بين المسلمين أنفسهم في أفكارهم وأعيادهم أيضاً، وحتى في شكل إيمانهم؟.

إنّ ما قرأته حول الأندلس مدهش في وعيه وتسامحه، فقد جعل الأندلسيون من أعيادهم فرصة لإدخال غيرهم في أفراحهم وتمكنوا من ذلك عبر الزمن، حيث كان المسلمون وقتها قوة حقيقية ليس عسكرياً فحسب، ولكنهم تمكنوا أيضاً من استيعاب حضارة الآخر، وأدمجوها إيجابياً في ثقافتهم وحضارتهم لدرجة أنها أصبحت تنتمي إليهم أيضاً.

وكان الإسلام حضارة جامعة دينياً وثقافياً، التقى فيها المسلم باليهودي والمسيحي قبل حروب الاسترجاع «La Reconquista»، وكانت مساجد الأندلس معالم حضارية يدخلها المسلم والمسيحي واليهودي، والذي لا دين له، والغجري، ويستمتع الجميع بهندستها وعمرانها دون أن يمسوا إيمان المتعبدين والمصلين.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


اليوم، يدخل المسلم وغيره إلى الكنائس العالمية الكبرى بسهولة، لا أحد يسأله عن انتمائه الديني، أو العرقي، أو عن نوعه، وينشأ هذا كله في مساحة من التسامح الديني، يحترم فيها الديني دون التفريط في حق الآخر دينياً من اكتشاف عظمة الأنامل التي أتقنت تفاصيل المَعْلم، وللأسف تراجع إسلام الأندلس كمفهوم وحرية، وحلت محله أطروحات أيديولوجية مغلقة دينياً لا فرح فيها.. واليوم تطرح أسئلة، من مثل: لماذا تغلق اليوم المساجد الكبيرة، في وجه المختلف دينياً؟، ولماذا لا تستعيد حريتها الأندلسية القديمة، التي لم تفقدها إنسانيتها وجمالها وهبتها وقداستها؟

كم نحن في حاجة إلى تلك العقلية الأندلسية التي عرفت كيف تجعل من ثقافة الآخر سنداً حضارياً لها، وليس عدواً، فكانت مصدر سعادة للبشرية كلها.