د. انتصار البناء

ما يرفضه كثيرون هو ربط المظهر بالشخصية وجعل المظهر الخارجي دليلاً على التكوين الداخلي وترجمة له، وربما يكون هذا الاتجاه صحيحاً إذا كان بقصد حماية الحريات الشخصية، وتجنب إطلاق الأحكام على الناس وتصنيفهم، لكننا لا نستطيع تجاوز فرضية أننا نعبر بمظهرنا الخارجي عن أفكارنا وتوجهاتنا وشخصياتنا حتى لو لم يكن ذلك ناتجاً عن قصد.

في آخر جولة تسوق لي أعجبت بمعطف جينز، لكنني فوجئت ببعض فجوات التمزق التي أفسدت جماله، ولوهلة فكرت أن (موضة) الجينز الممزق قد اكتسحت وأصبحت قديمة ونمطية غير دالة على شيء، لكنني لم أستطع تجاوز فكرة أن ارتداء ملابس ممزقة لا تناسبني فصرفت النظر عن المعطف.. فما زالت شخصيتي بعيدة عن (البساطة) في كثير من الأمور، وما زلت أدقق في دلالة الأشياء. لذلك فأنا، أحياناً، أحسد ذوي الشخصيات البسيطة الذين لا ينشغلون بالتفكير في كل شيء وتحليله وضبطه.

إحدى صديقاتي التي تعاني من مشكلات اجتماعية وصحية متعددة مولعة بتركيب قطع ملابسها على نحو لافت للانتباه، ألوان زاهية، متعددة، وقصات غير منضبطة، وأسلوب جديد لربط الحجاب في كل مرة، ومن معرفتي بها أدركت أن تركيزها المفرط في تركيب العديد من القطع، ولبسها دفعة واحدة، والتعدد في الألوان، وفي نوعية الأكسسوارات اللافتة، هو شكل من أشكال الانشغال، وشغل الوقت، والشعور بالقدرة على إنجاز جماليات تعيد لها الإحساس بالبهجة المفقودة.

صديقة ثانية مولعة بارتداء العلامات التجارية الفاخرة من الملابس، والأكسسوارات والحقائب، وحتى الأحذية، فكل ما تريده هو علامات تجارية باهظة الثمن جداً، ومن معرفتي بها أيضاً، أدرك ما تريد أن تتوارى خلفه من قوة اجتماعية ومالية تمنحها شعوراً بالتفوق بين الآخرين نتيجة شعور آخر بالنقص ربما تعاني هي منه.

الاثنتان من وجهة ذوقي الخاص ليستا أنيقتين، لكنهما منشغلتان جداً بمظهرهما الخارجي لأسباب تتعلق بعوالمهما الداخلية، ومن أجل ذلك يصعب ألا نربط المظهر الخارجي بنمط الشخصية، وبالتركيبة النفسية، والاجتماعية التي تشكلت منها الشخصية، فضلاً عن أن كثيراً من مظاهر الشكل الخارجي تعبر عن هوية وطنية أو أديولوجية، يشكل الالتزام بها أو الخروج عنها موقفاً شخصياً من الفرد تجاه الآخرين وموضوعاتهم.

لذلك فإن علم السيميائيات (العلامات) يهتم بتفاصيل المظهر الخارجي للفرد والجماعة، ويحاول تفسيرها في إطار علاقتها بالنسق الاجتماعي الذي تنتمي إليه، فنحن نرتدي ما يعبر عنا، ونحكم على مظهر الآخرين بمعاييرنا الذاتية أو المتواضعة مع المجتمع، فالمظهر الخارجي ليس خارج تفكيرنا.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟