د. انتصار البناء

هي فتاة في الـ 20 من عمرها، لا أعرفها، التقيتها في مكان لأقل من ربع ساعة، كانت تتذمر وضمن ما قالته: «كنت مضطرة للسفر والبقاء في الخارج لمدة طويلة لمرافقة والدي المريض، والحمد لله أن تلك الفترة السيئة انقضت وعدت إلى بلادي».

سألتها: وأين كان والدك يتعالج؟

قالت: في بلجيكا.

سألتها ثانية: ألم تعجبك بلجيكا؟

أجابت باستياء شديد: نعم، لم تعجبني نهائياً.

دفعني شيء من الفضول للاسترسال معها، فسألتها عدة أسئلة تفصيلية لفهم سبب استيائها من بلجيكا، لكن الفتاة عبرت في شق آخر عن إعجابها الشديد بالطبيعة الجميلة للبلاد وبالجو الساحر هناك، ولم تبد أي استياء من طبيعة الشعب وأسلوبه في التعامل، فوصفتهم بأنهم بشوشون جداً ومتعاونون وخدومون، شعب نموذجي، حتى إنه لم يضايقها أحد منهم بشأن حجابها، وهكذا وصفتهم، شعب ليس بالفضولي، شعب يحترم خصوصيات الآخرين.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


ولكن ما جعلها تستاء من الوضع هناك هو مستوى التحرر الاجتماعي وأسلوب لبس النساء هناك، كما أن أسرتها عاشت حالة من «الوسواس» في المأكل والمشرب خوفاً من امتزاجهما بأي نوع من المحرمات، فكانوا مضطرين إلى جلب طعامهم من المعلّبات والأرز معهم، لقد كانت الحياة حسب تعبير الفتاة الشابة، خانقة وبالكاد احتملوها!

ذكّرني كلامها بمقال قرأته لأحد الكُتّاب يقارن فيه بين كتابي سيد قطب وزكي نجيب محمود اللذين صدرا في الفترة نفسها حول موضوع واحد هو «رؤيتهما لأمريكا».

فكان سيد قطب يرى أن أمريكا هي رمز الانحلال والفساد، وكان زكي نجيب يرى أن الشعب الأمريكي شعب محافظ وملتزم ومتحضر، ويسترسل الكاتب في أن هاتين النظريتين بقيتا الحاكمتين لعلاقتنا بالغرب حتى يومنا هذا. كنت أظن أن هذا الرأي صحيح في نطاق ذك الزمن الذي كنا نستقي فيه قناعاتنا من تجارب الآخرين ومعارفهم، غير أن الواقع يؤكد أن الحال لم تتغير كثيراً.

إنه لمن المؤسف أن كثيراً من أبناء الجيل الجديد لا يستطيعون عقد موازنات منطقية بين قناعاتهم التي اكتسبوها عن الآخر بالتلقين، وما يرونه ويتلقونه بحواسهم من العالم الخارجي، والإشكالية هنا لا تتعلق بالموقف من المبادئ والثوابت، لكنها إشكالية ترتبط بالمرونة الشخصية وبقبول الآخرين، وبامتلاك تفكير نقدي، يتجاوز الأحكام الأخلاقية (الضيقة) على الآخرين، إلى اكتشاف عناصر قوتهم وتميزهم وكيفية فهمها والاستفادة منها.

إن السؤال عن الآخر، هو السؤال عن إمكانات الاندماج والتعايش وقبول التعدد.