د. انتصار البناء

تفشل في إقناع الآخرين بقراءة رواية أو ديوان شعر، والجواب الجاهز دائماً أن هناك ما هو أهم من الأدب كي نقرأه، صاحب الرد هنا ليس قارئاً بالأساس، وليس مهتماً بالقراءة في أي حقل ثقافي.. لماذا تراجعت مساحة الأدب في حياتنا؟، وكيف فقد بريقه النخبوي بعد أن كان السلم الأول لبلوغ لقب مثقف؟

أذكر جيدا كيف كنا في المرحلة الإعدادية، نتنافس لتجميع أكبر عدد من الروايات والقصص القصيرة لإحسان عبدالقدوس، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، كنا نجوب مكتبة كل مدرسة، ننتقل إليها ونشعر بالغضب لفقر رفوف الروايات عما نملكه نحن.

في تلك الفترة لم تكن لدينا أجهزة ذكية للقراءة الإلكترونية، ولم تكن لدينا قدرة على التنقل السهل، وكانت وسائل الإعلام في أضعف حالاتها، ولم تكن معارض الكتاب بالكثرة الحالية والثراء الحالي، لكن شغفنا بالأدب كان دائماً يرشدنا إلى كل جديد ومستجد من الروايات والدواوين.

قد يكون أحد أسباب انحسار موقع الأدب عند القراء هو الإحساس بـ (المتعة) الذي بدأ يتلاشى من بنية الرواية، والمتعة هي الركيزة التاريخية الأولى التي وضعها قدامى النُقاد وظيفة جوهرية للأدب، التي تتفرع منها بقية الوظائف، كالتطهير النفسي والتنشيط العقلي، والتقمص والاستشراف، وغيرها من الوظائف التي كانت تتجدد في كل مرحلة فكرية، وبدون الإحساس بالمتعة يتعذر على القارئ الإقدام على قراءة عمل أدبي، أو الاستمرار في قراءته.

من عوّض الناس عن متعة قراءة الروايات؟.. إنها الشاشة بمختلف أنواعها، فثمة ازدهار كبير لدور عرض السينما حتى لو كان العرض دون المستوى، كما ثمة موجة جديدة من المسلسلات والأفلام المسلسلة والمجزأة عبر قنوات جديدة مختصة بالأفلام والمسلسلات، أسرت الكثيرين وشدتهم إليها.

إنّ هذه الشاشات وما يكتنفها من مؤثرات صوتية ومرئية، وإبداع، وإثارة إخراج، خلقت المتعة الجديدة ودفعت كثيراً من كتاب السرد للتخلي عن الرواية تحت شعارات أدبية جديدة تتخذ صور التشظي، والغموض وإحداث صدمات للمتلقي، ليكون شريكاً في إنتاج المعنى، أو صاحب نص جديد متخلق من النص الأول!

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


إنّ الأدب لا يحظى بالدعم الرسمي والنخبوي إلا في تجليه الكرنفالي، والصراعات التي تتورط بها الكيانات الأدبية، والمحسوبيات التي اخترقت حسابات المسابقات الأدبية أفسدت الكثير من رونقه، وهزّت صورة الأدب عند المتلقي، فضلاً عن تأخر الكتابات النقدية عن دعم النصوص الجيدة وجذب القراء إليها، وأمام كل هذا التراجع نتساءل: كيف يمكننا بعث الأدب من جديد؟