عمر سيف غباش

أثناء دراستي في الجامعة صادفتُ فيلسوفاً مثيراً للاهتمام بشكل كبير، اسمه فيتجنشتاين Wittgenstein، كان نمساوياً وقد وَرِث عن والده ثروةً كبيرةً إلا أنه آثر التخلي عنها لصالح إخوته وأخواته.. في بداية الأمر، كان قد تخصص في علوم الهندسة لكنه ما لبث أن قرر التوجه إلى دراسة الفلسفة وممارستها لِمَا وجد فيها من سعادة ورضا كبيرين، التحق بجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، وفي وقت لاحق أمضى بقية حياته مدرساً فيها.

من المستحيل تلخيص فِكره بكلمات قليلة، لكن ما أدهشني حقاً هو تركيزه الشديد على كيفية استخدامنا للغة، ومِن إحدى أفكاره التي استقرت في ذهني هي أن نعتبر اللغة وكأنها لعبة لها قواعد وشروط يجب اتباعها والالتزام بها إذا ما أردنا أن نلعبها بكفاءة وفاعلية.

وتقوم هذه الفكرة على أننا عندما نستخدم كلمات معينة أثناء مناقشتنا لموضوع ما مع بعضنا البعض، فإننا بوعي أو بغير وعي نكونُ متفقين على أنَّ لهذه الكلمات معانٍ ودلالاتٍ محددة ثابتة، وإذا تعسر علينا فهم معاني هذه الكلمات بشكل مُوَحَّد، أي أنَّ كلاً منّا قد فهم معناها بطريقة مختلفة، فعندها لن يمكننا التواصل أو ممارسة هذه اللعبة بشكلها الصحيح.

فعلى سبيل المثال، إذا كنتُ أنا أُطلِقُ تسمية «أزرق» على اللون الأحمر، وكنتَ أنتَ تُطلِقُ تسمية «أزرق» على اللون الأخضر، فحينها كلمة «أزرق» لا تشير إلى المعنى نفسه، ولذلك يجب علينا أن نتفق على توحيد معاني الكلمات نفسها كي نتمكن من التواصل بشكل سليم.

إن إحدى الممارسات العملية التي توضح هذه الفكرة هو استخدامنا لكلمة «فلسفة»، وللفعل المشتق منها ألا وهو «يتفلسفُ» و«يتفلسفون»، فعندما صادفتُ هذه الكلمات للمرة الأولى في اللغة العربية وجدتُ أن معناها يصاحبه الشكُ والازدراء.. في البداية لم أفهم سبب ذلك، إلا أنني ومع مرور الوقت أخذتُ أتعرفُ على الجدل القديم الذي دار حول استخدامات الفلسفة، وكيف أنه قد أسيء استعمالها، فيبدو أن لهذه الكلمة معنى ضيقاً للغاية ومحدداً تاريخياً، ومنذ زمن ذلك الجدل أصبحت الفلسفة تحمل معنى سلبياً في لغتنا العربية.

وفي الجهة المقابلة، فإن لكلمة «فلسفة» دلالتها المهمة في اللغة الإنجليزية، فهي تحتل مكانة رفيعة بين كافة الأنشطة الفكرية، وتتمتع بممارسة واسعة مبتكرة، فأولئك الذين يدرسون الفلسفة يصبحون على دراية عميقة بالحجج الدقيقة والمعقدة حول اللغة والزمن والوجود والكلمات والمعاني، وغيرها من الأمور الأخرى الهامة.

أخبار ذات صلة

جمود أم انكماش كلي؟.. العالم يدفع ثمن الركود القصير أثناء الجائحة
هل أخطأ جيروم باول؟


إن ما يزيدني حزناً وحرقة أننا لا نزال في عالمنا العربي نواصل طمس وتحجيم «علوم الفلسفة» ونتراجع عن دعمها، علماً أنها تعدُ واحدة من أهم الأدوات التي تستخدم لاكتشاف حدود مفاهيمنا وتصوراتنا.