الرؤية

بقلم: د. نصير بوعلي أستاذ جامعي ــ الإمارات

سُئل ذات يوم الباحث الفِنوُميِنوُلوُجِي وأحد رواد المدرسة الظاهراتية في علم الاجتماع«هاملت واغنر» Hamlet Wagner عن السر العظيم وراء كتابته لأزيد من عشرين كتاب في مجالات اهتماماته السوسيولوجية والفنية، وقد كان ذلك في منتصف ستينيات القرن الماضي أجاب وغنز:«لقد تمكَّنت في صغري من قراءة معظم النصوص المكتوبة، التي كانت بحوزتي وكنت من رواد المكتبات الجامعية التي لم تكن على نفس مستوى المكتبات الحالية من حيث الكفاءة التقنية والسرعة والوصول إلى المصادر... والثمرة التي جنيتها بعد هذا التراكم المعرفي هو حصولي وسام استحقاق القراءة الأول في عهدي، وأنا الآن من رواد هذه المدرسة الظاهراتية».

ولما سُئل هاملت واغنر عن جيل أحفاده، الذين اتضح أنهم فقدوا الكثير من عوائد القراءة والمطالعة وأصبحوا أشد ارتباطا بجهاز التلفزيون، الذي تم اكتشافه في ذلك الوقت، كانت إجابته:«... بينما أنا جدّ حزينًا ومتأسفًا على جيل أحفادي الذين توقفوا عند عتبة أفكاري وأصبحوا لايقرؤون ولا يكتبون، بل هم اليوم أشد ارتباطا بالعملاق الخجول، يقصد التلفزيون».

هذه المقولة تحمل أكثر من دلالة وتعبِّر عن أهمية القراءة في زمن الوعي الحضاري، الذي كان في عهد رواد القراءة الأوائل، وتصدع، وبدأ يفقد بريقه اللامع والممتع عند طلبة الجامعات في وقتنا الحالي.

تصلني المقالات تباعاً من طلبة الجامعة للمساهمة في صحيفة طلابية، وصراحة تراودني دوما هذه الأسئلة: لماذا يكتب الطلبة من دون قراءة متعمِّقة في الموضوع المعالج؟.. ألا يدري الطلبة الغرض من وجودهم في الجامعة؟، وماهي الغاية والهدف من وجود هذه المكتبات الجامعية التي تضاهي بعناوين كتبها أكبر المكتبات الجامعية في العالم؟.

إن القراءة هي مفتاح اكتساب المعرفة والعلم، وهي خزان الكتابة، وقد قيل قديما: أن القراءة بلا تأمل كالأكل بغير هضم، ومن دون القراءة لفترات طويلة في اليوم، فإن ما يكتبه الطلبة هو مجرد إنشائيات أو مقالات وتقارير خاوية، ومن دون روح تسري بين حروفها.. والمثل الإيطالي يقول:«من يكتب يقرأ مرتين!»، فالقراءة تجعل من صاحبها شخصا أفضل كل يوم، يتصور، يرتقي، يفهم ذاته بعمق من خلال المعارف المكتسبة، ذلك أن قراءة الكتب الجيدة، مثلا، كمحادثة أفضل الرجال في القرون الماضية.. هكذا تُعلِّمُنا هذه المقولات أهمية القراءة لبناء الذات.

أخبار ذات صلة

مقاومة التشتت الجغرافي-الاقتصادي.. كيف يحدث؟
فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!


ومن هذه الزاوية ينبغي للطلبة في الجامعات ورُوَّاد مواقع التواصل الاجتماعي عامة، أن يميّزوا بين الكتابة الإنشائية والكتابة المعرفية التي تستند إلى الابستيمولوجيا والمصطلح الدقيق، وهذا هو بيت القصيد من الكتابة بعد القراءة المتأنية والدالة.. الكتابة التي تبقى والكلمة التي تزول مع الزمن، وقد قال روبرت إسكاربت في كتابه:«ثورة الكتاب» قديما هذه المقولة المشهورة: «الكلمة تضيع أما الكتابة فتبقى، وقد مكنت الكتابة للكلمة من أن تقهر المكان، ومكنها الكتاب الحبري الأسود من أن تقهر الزمان» وقد قيل مرة لأرسطو: كيف تحكم على إنسان؟، فأجاب أسأله: كم كتابا يقرأ؟، وماذا يقرأ؟، وكيف يقرأ ؟.. وعلى خلفية ذلك آنفا، نقول: طالب لا يحمل كتابا في جيبه أو محفظته هو مثل الجسد بلا روح، أو شجرة يابسة بلا ثمار !؟.