الرؤية

ما يميّز الإنسان عن باقي المخلوقات صفة النطق والقدرة على التعبير، فالكلمة هي الظاهرة البشرية الأولى، التي وجدت مع الإنسان، وأسهمت في تشكيل الاجتماع الإنساني منذ مرحلته الأولى، وبها انتقلت المعرفة المكتسبة من شخص إلى آخر، عبر أماكن مختلفة وأزمان متلاحقة، والكلمة في طورها الشفهي مثَّلت الأداة الأولى، لنقل المعارف والخبرات الإنسانية عند كل الأمم.

لا شكَّ أن أثر الكلمة في حياة الناس عظيم جداً، ربما لا ندركه جميعاً، لكنه موجود بالفعل، ويصنع في الأشخاص العديد من التغييرات المدهشة تماماً، سواءً كانت هذه التغييرات إيجابية أو سلبية.

وبالرغم من ذلك، فالبعض يجهل أثر الكلمة في النفوس، ولا يعرف كيف يمكنها أن تغير من حياة الناس، ويرى أن الكلام سيظل كلاماً مهما حدث، على الرغم من أن الكلمة تؤثر في حياة الناس، ومن كل جوانب الحياة.. إنها مفتاح للبهجة والسعادة والأمل والتفاؤل والطاقة الإيجابية لمن أدرك قيمتها، وتنبأ بأثرها، وأجاد استخدامها، وعرف معناها ووقعها على آذان السامعين.

لقد طلب «الوليد بن عتبة» حاكم المدينة المنورة من الإمام الحسين البيعة ليزيد بن معاوية سنة 60 للهجرة بعد وفاة أبيه، كما تخيّل الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته «ثأر الله» التي جاءت في جزءين: «الحسين ثائراً» و«الحسين شهيداً»، لقد قال الوليد للإمام الحسين: «نحن لا نطلب إلا كلمة.. فلتقل بايعت.. واذهب بسلام لجموع الفقراء.. فلتقلها واذهب يا ابن رسول الله حقناً للدماء.. فلتقلها ما أيسرها، إن هي إلا كلمة».

فرَّد عليه الحسين: «كبرت كلمة، وهل البيعة إلا كلمة؟ ما دين المرء سوى كلمة.. ما شرف الرجل سوى كلمة.. ما شرف الله سوى كلمة.. أتعرف ما معنى الكلمة؟.. مفتاح الجنة في كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله هو كلمة.. الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور.. وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري.. الكلمة فرقان بين نبي وبغي.. بالكلمة تنكشف الغمة.. الكلمة نور.. ودليل تتبعه الأمة.. عيسى ما كان سوى كلمة، أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم.. الكلمة زلزلت الظالم.. الكلمة حصن الحرية.. إن الكلمة مسؤولية.

وعلى نفس السياق، كان سقراط يجلس بين تلاميذه، وهم يتبادلون الكلام فيما بينهم، يأخذون ويردون على سقراط وهو يصحح ويقيّم ويعلم، يخوضون في مواضيع شتى مختلفة ومتنوعة، بعدد تشعب الآراء واختلاف طرق الدنيا من حولهم، لكن في هذه الدائرة التي يتعالى منها الكلام كأنها رحى حرب، وتتطاير الأفكار بين الأستاذ والتلاميذ.. جاء أحدهم وهو يتبختر في مشيته مزهواً بنفسه، فنظر إليه سقراط مطولاً، ثم قال جملته الشهيرة: «تكلم حتى أراك».

أخبار ذات صلة

مقاومة التشتت الجغرافي-الاقتصادي.. كيف يحدث؟
فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!


الكلمة ليست مجرد مجموعة حروف نكوّن منها جملاً نقرؤها أو نسمعها، بل إنها أعظم من ذلك، فهي تبث مشاعر وصوراً في العقل، ومعنى ندركه ونستوعبه، ومسؤولية نحاسب عليها، وأثراً نتركه، فالإنسان كلمة إما يترك أثراً طيباً أو سيئاً.

والإنسان عندما يتحدث يظهر ما بداخل شخصيته وتفكيره وانتمائه وأخلاقه، فالكلمة هي مرآة صاحبها، ومدى قوته وتعريف بشخصيته، وقد سئل الجاحظ عن صفات الإنسان العاقل، فقال: «هو الذي يعلم متى يتكلم، وكيف يتكلم، ومع من يتكلم».

في النهاية يمكن القول: حياتنا ليست من صنع أفكارنا فقط بل هي أيضاً من صنع كلماتنا، فالكلمة هي أكبر وأعمق وأكثر فاعلية مما نظن.. إنها قوة في مشاعر الإنسان توجه قدراته وإمكاناته.