مروان البلوشي

كيف نستوعب ما يحصل في كازاخستان؟ الأمريكان يفهمون الأحداث هناك من خلال شركاتهم العملاقة (إكسون-موبيل، شيفرون) التي تدير بعض أضخم حقول النفط خارج الخليج العربي. الروس يشكون أن الاضطرابات هناك قد تكون بداية ثورة جديدة تشعلها المخابرات والمنظمات الحقوقية الغربية على حدودهم، أما بكين فهي أقرب لموسكو من واشنطن والغرب.

لنبتعد مؤقتاً عن تفكير القوى الكبرى، لماذا هذه الاضطرابات المفاجئة في بلد يوصف في آسيا الوسطى بأنه الأغنى والأقوى والأكثر تسامحاً واستقراراً وانفتاحاً على الاستثمارات الدولية؟ بلد ترتبط الطبقة السياسية فيه بعلاقات عمل حميمة مع أكبر الشركات النفطية والاستشارية والتقنية حول العالم. بلد استثمر بضخامة في بنيته التحتية لدرجة بناء عاصمة جديدة.

بلد لم يتأثر بأحداث الربيع العربي أو «الثورات الملونة» في أوكرانيا، جورجيا، وقيرغيزستان. بلد أرسل الآلاف من شبابه للدراسة في أفضل الجامعات الغربية. بلد أمضى العقود الأخيرة في بناء هوية قومية خاصة به. الحقيقة أن هناك خلطة من العوامل التي أشعلت ما حصل. المظاهرات وأعمال العنف كانت مفاجئة، لكن أسبابها ليست كذلك، فهي في الجوهر طبقية اقتصادية، وهو ما تكرر مسبقاً في بلدان أخرى شهدت احتجاجات وثورات في السنين الماضية.

لا تشعل حرائق السياسة هكذا، والأحداث الحالية في كازاخستان، لم تشتعل أساساً بسبب صراع فكري أو سياسي أو طائفي. لكن الذي نعرفه أن الكازاخ يشتكون منذ سنوات من عدم قدرتهم على مجاراة التضخم وكذلك تقلص قدرتهم الشرائية، بالتحديد كانت الشرارة الأولى تتمثل في قرار الحكومة برفع أسعار الغاز بشكل جنوني الذي حرك الناس للتظاهر في مدينة «تازار» الواقعة في جنوب البلاد الفقير، رغم أنها تقع بمحاذاة حقول الغاز الضخمة هناك.

انتقلت عدوى المظاهرات إلى كبرى مدن البلاد «آلماتي»، التي يشتكي أهلها من آثار الإصلاحات العكسية التي نفذتها الحكومة في السنوات الثلاث الأخيرة وفق توصيات صندوق النقد الدولي، والتي تخلت فيها عن دعم السلع الأساسية ما أدى لتفاقم الشعور الشعبي بالإهمال المالي والخدماتي، وبالذات من بعد انتقال الحكومة للعاصمة الجديدة.

أخبار ذات صلة

هل أخطأ جيروم باول؟
العاصفة القادمة في العملات المشفرة

هنا، حصل انهيار غير متوقع في المنظومة الأمنية، التي فقدت السيطرة على المطار والميادين والمباني الحكومية الرئيسية، أعقب ذلك ظاهرة مُريبة لاحظها الكثيرون وسجلتها الكاميرات، حيث بدأ توزيع الأسلحة الخفيفة والثقيلة على المتظاهرين، الذين بادروا أيضاً بالاستيلاء على مخازن السلاح في مراكز الشرطة وقوات وزارة الداخلية، هذا ما يضاعف من مصداقية نظريات التدخل الخارجي التي تساهم ولو جزئياً في الفوضى هناك.

جزء كبير من قادة التظاهرات هم من الشباب الذين أرسلتهم الحكومة للدراسة في الجامعات الأمريكية والبريطانية، عاد هؤلاء الشباب ولم يجدوا فرص عمل تُناسب تحصيلهم العلمي، ما أشعرهم بالإحباط رغم الدعاية الضخمة التي رافقت إطلاق "رؤية كازاخستان 2050" والمُحملة بالرفاه الاجتماعي والمالي، كما أنهم تفاجؤوا بأن سلالم الترقي الاقتصادي والاجتماعي أصبحت في السنين الأخيرة مزدحمة بأبناء الطبقة السياسية التي تحكم البلاد بغض النظر عن التعليم والكفاءة، وهو ما قوى بين صفوفهم دعاية منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني الممولة من الغرب والتي تربط بين الأوضاع الاقتصادية الصعبة وبين فساد النظام الحالي وتحالفه مع روسيا.

كازاخستان وآسيا الوسطى على مفترق طرق الآن، ما يحصل هناك من اضطرابات غير متوقعة هو في نفس الوقت، نتيجة متوقعة لتلاقي التآكل الاقتصادي الذي أصاب الطبقة الوسطى في دولة نفطية ذات نظام شبه ريعي، مع عوامل سياسية أخرى رافقت الشرارة الاقتصادية.

في اللحظة الحالية قد تتجه الأمور لبعض الهدوء من بعد تدخل القوات الروسية هناك لحفظ الأمن، وهو ما يسعد موسكو لأنه يعطيها نفوذاً أكبر في جمهوريات آسيا الوسطى كما أنه سيكون نصراً إضافياً في سجلات فلاديمير بوتين بعد توسطه العام الماضي لإقرار هدنة ثم اتفاقية السلام بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما يلمع من صورته كاستراتيجي محنك قادر على حفظ أمن ومصالح الدول والشعوب التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي.

لكن ما يجري يقلق موسكو أيضاً لأن حصول قلاقل أو ثورة في جوارها المباشر قد يمنح الإلهام لحصول أمر مماثل في ميادين موسكو وسان بيترسبيرغ. كما أن احتمال انتشار عدوى الاحتجاجات الكازاخية لباقي جمهوريات آسيا الوسطى، قد يفتح أبواباً من عدم الاستقرار ونمو شبكات الإرهاب وانتشار الأيديولوجيات الدينية المتطرفة ومطالبة بعض الأقاليم الروسية بالانفصال، كل هذا لم يكن وارداً قبل بضعة أيام، حيث كان العالم يراقب بوتين وهو يحرك قواته بثقة نحو حدود أوكرانيا، ويبدو أن أنظار العالم قد تنتقل في 2022 من إقليمنا إلى أقاليم أخرى.