طارق هاشم محمد علي

وقفت أمامي متسولة من الكاميرون، كان وشمها القبلي واضحاً، طلبت مني صدقة، وضعت يدي في جيبي وأخرجت عملة معدنية، ألقيتها في السلطانية الصغيرة التي بين يديها، فأحدثت رنينا، ثم تحركت هي إلى الأمام ومضيت أنا في طريقي.. تلك المتسولة الوحيدة علينا النظر إليها ضمن حركة وحياة الناس في دول الساحل الأفريقي.. هنا محاولة لمتابعة تجارب البشر هناك.

في العام الماضي تاهت قافله مكونة من عدة عربات في الصحراء أمام حدود الجزائر الجنوبية، بعد عدة أيام تم العثور على جثث مئات الأطفال والنساء وبعض من الرجال.. لقد ماتوا جميعاً من العطش، ومعظم الموتى كانوا من النيجر، البلد الأول المسؤول عن تصدير المتسولين إلى الجزائر، فيما كان آخرون من مالي والكاميرون.

يومها صرح عقيد شرطة جزائري لإحدى القنوات العربية، قائلاً: «إن عدد العابرين للتسول من أفريقيا الساحل إلى الجزائر يصل إلى 5 آلاف أسبوعياً»، والساحل هو الاسم القديم للدول التي وجدت جنوب بحر الرمال العظيم المسمى الصحراء الكبرى.

كانت القوافل تعبر هذه البلدان، متجاوزة العبور المباشر للصحراء (البحر)، وكانت مدن الساحل في وقت ما من أغنى بلاد العالم.. المدهش أن «تمبكتو» أسطورة مملكة مالي، المدينة التي كان بها نصف ذهب العالم، تغرق اليوم في الرمال وتنقل مخطوطاتها من صندوق خشبي إلى آخر، ويمر بها متقاتلون تابعون للأزواد أو لـ«بوكو حرام»، وفي بعض الأحيان جنود (البارا)، الذين انشقوا من«الجيَّا» (الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر)، وانضموا للقاعدة، محافظين في الوقت نفسه على ولائهم لمخابرات بلادهم.

في الساحل، اللعب على المكشوف دائماً.. هنا في مؤخرة العالم كل من يستطيع حمل السلاح وجمع 10 مقاتلين تخيل نفسه مشروع (بن تومرت) جديد، وتُموَّل هذه الحروب الصغيرة، عبر جمارك العبور، الأتاوات التي تدفعها الشاحنات، ويحصل شيوخ النضال على تسميات من قبيل مولاي (مارلبورو) أو سيدي (إل إم)، وهناك أيضاً شبكات لتهريب البشر، ولكن لأن معظم السكان بدون مهارات لازمة للهجرة، يتم تحميلهم في شاحنات مرسيدس الـ10 أطنان، وإرسالهم شمالاً نحو ليبيا والجزائر والمغرب، وشرقاً إلى السودان وتشاد، وهناك وجود مقدر لهؤلاء المساكين غرباً في السينغال، والأخطر جنوباً في ساحل العاج، حيث احتل البوركينيون البلاد بالكامل.

في هذه الخلطة هائلة الحجم، قد يتساءل القارئ: أين الجيوش الوطنية؟.. ببساطة لا توجد جيوش بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هناك قوات مسلحة تقوم بحماية الاستثمارات الفرنسية في المنطقة، حيث تتحصل فرنسا على 70% من كهربائها من صحراء الساحل، ومن النيجر على اليورانيوم، وللحصول على الكعكة الصفراء، كما تُسمَّى، تقوم البلدوزرات بتجريف الطبقة العلوية من الأرض وصولاً إلى الأسفل، مدمرة في طريقها تربة الرعي التي يعتمد عليها بدو الصحراء، كما تسمم مخلفات الصناعة التعدينية المياه النادرة هناك.

أخبار ذات صلة

فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!
الدور الرئيسي لإزالة الكربون واللامركزية والرقمنة في تحول قطاع الطاقة


وتتحدث مصادر مطلعة على أن مسؤولين نيجريين مدنيين وعسكريين يتقاسمون المبالغ التي تدفعها شركات الطاقة تحت الطاولة كعمولات، وتظهر الأرقام الهزيلة لمبيعات الكعكة الصفراء في الميزانية الحكومية، كما تم تداول أخبار حول ما تقوم به الشركة الفرنسية «ألف أكيتان» من دور في حلب البقرة السوداء عبر وكلائها المسؤولين في الدولة، لكن قصص المتسولين في دول الساحل الأفريقي تحتاج أن تُسمع، فشركات التنقيب الفرنسية مزقت كل شيء من أجل مصالحها، ولم تترك مساحة من الأرض هناك إلا قلبتها، ولأن السكان هناك بلا مرعى ولا ماء وطبعاً بلا عمل، فقد اضطروا للهجرة والعمل متسولين في شوارع أم درمان وتمنراست وسرت، ومدينة النور باريس، التي تضاء كل ليلة بأحلام الجياع، المحتاجين إلى لقمة من «عصيدة الدخن»، تبرق بلمعان الآبار الناضبة في الساحل، حيث يقوم أطفال في عمر الرابعة، بقطع بحر الرمل الكبير بحثاً عن عملة معدنية، حاملين معهم أداة المهنة المفضلة «سلطانية من الألمنيوم».