بقلم: الطاهر عرفه كاتب ومفتش سابقاً للتربية ـ الجزائر

إن نجاح الثورة الصناعية في أوروبا في القرنين الـ18 والـ19 أعقبه مد استعماري عالمي، بحثاً عن المواد الأولية لتغذية المصانع التي ولدتها تلك الثورة من جهة، وإيجاد أسواق خارجية لترويج منتجاتها الصناعية الوفيرة من جهة ثانية، وما درَّهُ ذلك الترويج من ضخامة لرؤوس الأموال وحتمية استثمارها.

نتج عن الثورة الصناعية، إذاً، تقدم اقتصادي ـ كمي ونوعي ـ أدَّى إلى تنظيم حركة استعمارية واسعة ثم أثناءها احتلال دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية لنهب ثرواتها وتدعيم الثورة الصناعية، وبالتالي سقوط ما يُسمَّى بدول العالم الثالث، حالياً، في مخالب القوى الاستعمارية، آنذاك، تحت عنوان تبليغ «رسالة حضارية» إلى شعوب تلك الدول، قصد الأخذ بيدها نحو الرقي الحضاري، فكان ثمن استقبال تلك «الحضارة» المكوث مئات السنين، تحت السيطرة الاستعمارية.

وحين حاولت نفض غبار«الحضارة»عنها كلفها ذلك الملايين من أبنائها، ورغم حصول معظمها على استقلالها السياسي، الشكلي، فإن بقايا تلك «الحضارة» قد تجذرت بمستوى تجـذر العناصر المكونة لثقافات تلك الشعوب إلى درجة يصعب التخلص منها على مدى القرون القليلة المقبلة.

أما نجاح الثورة التكنولوجية في القرن الـ20، فقد صاحبه مدّ ديمقراطي عالمي أيضاً، فحاملو ومبلغو «الديمقراطية» اليوم هم أنفسهم رسل «الحضارة» بالأمس ومستقبلوها هـم أنفسهم مستقبلو الحضارة بالأمس، وما الفرق بين حضارة الأمس وديمقراطية اليوم إلا في المصطلح الذي اقتضى التجديد تطويـره تبعاً لتطور الفكر الاستعماري، ليتماشى مع منهجية وفنيات استعمار الشعوب، ووسائل التبليغ هي الأخرى لم تختلف إلا من حيث التقنـية، وهي نتـاج الثـورة التكنولوجية، والـدة «الديمقراطيـة».

إذن، الحضارة الغربية تم تبليـغها إلى الشعـوب على أفـواه المدافع وداخل طرود مقنبــلات الـ (B26)، أما «الديمقراطـية» فإنها تبلـغ اليـوم على أطـباق المشـويـات البشريـة، وداخل طـرود مقنبلات الـ (52 B)، وعلى رؤوس الصواريـخ العالية الذكاء عوض مشواة الفـحم التقليـدية ليكـون أسرع وأتقـن من حيـث التحضـير، ولو أنه لن يكون ألـذ.. هـؤلاء، إذاً، هم رسل «الديمقراطـية» الـذين انحدروا في السلـم الحضـاري إلى مرحلة دنيا من الحضارة، وهي مرحلة آكلـي لحـوم البشــر.

أخبار ذات صلة

فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!
الدور الرئيسي لإزالة الكربون واللامركزية والرقمنة في تحول قطاع الطاقة


إن رسل «الحضارة» بالأمـس قد دفـعوا قسطـهم من كلـفة التبلـيغ. أما رسـل الديمقـراطية اليوم، فإنهم يحاولـون التملص، تماماً، من المساهـمة في دفع فاتـورة التبلـيغ، لا لشيء إلا لأنهم أقنعوا الشعـوب التي «حضَّرُوها» في الأمـس بضرورة احتضان الديمقـراطـية وما يحويه هذا المصطلح من مضامين وفنيات التغلغل والتوغل في نفوس وعقول تلك الشعوب، واعتبارها (الديمقراطية) مخرجاً وحيداً لها من دائـرة التخلف، وبالتالي فعليها أن تنفـرد بدفع فاتورة التبليغ، مادياً وبشـرياً وحضارياً.

وإذا كانت هـذه الشعـوب تدفع اليوم ثمن استقـبال «حضارة» الأمـس، فعليها أن تتأكـد بأن آثار «الديمقراطية» لن تكون أحسـن حالاً من بقايا ومخلفات «الحضارة»، وبالتالي فعلـيها أن تستعد لمرحلة ما بعـد «الديمقـراطية» أو«إعصار القـرن»، الـذي يبدو أنه سينقل العالـم من حـرب باردة إلى حـرب أشد بـرودة، أو لنقل: «مجمدة»، فعوض أن كانت بين قطبين أحدهما رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني شيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، سيصبح العالم خاضعاً لقطب واحد هو القطب الرأسمالي، وبذلك يصبح لقمة سائغـة بدون منافـس، وسيصبح العالم الثالث أكثر برودة.