محمد سعدي ـ كاتب ومحامٍ، الجزائر

لقد عاشت الجغرافيا (السوسيو - تاريخية) خلال عقود ماضية على وقع القومية العربية مشرقاً ومغاربياً، وكانت هذه الفكرة من رحم مكونات الزخم التحرري ضد الاستعمار التقليدي، والهيمنة الغربية على معظم الدول العربية في ظل «تقسيم سايكس بيكو»، وقد تمركزت القومية العربية وقتها في مصر، خاصة أيام الرئيس جمال عبدالناصر، رحمه الله، ولعبت بشكل أو بآخر دوراً مميزاً في تعبئة المواطن العربي من أجل التحرر والانعتاق في ظل الاستنجاد بالبعد الحضاري التاريخي العربي الإسلامي مع بعض «البهارات» الفكرية التي انتشرت آنذاك.

لقد تمكنت القومية العربية بكل سلبياتها وإيجابياتها من أن ترافق المشروع التحرري، كما أثرت أيضاً بشكل أو بآخر على قادة الدول المستقلة حديثاً، ولكن تأثيرها لم يعمر طويلاً بسبب انخراط النُّخب المثقفة في لعبة المصالح والتوازنات، ومجاملة السلطات على حساب الأطروحات الفكرية المعروفة، والتي كانت سابقاً تعتبر من الثوابت.

لقد تغيرت المعطيات اليوم ودخلت في خانة المتغيرات، ووصل الأمر بالنخب العربية إلى بلوغها مرحلة «اللاوظيفية»، وتركت الفراغ لتيارات وأفكار أخرى ملأت المساحات الشاغرة، وسيطرت بشكل أو بآخر على عقل وفكر المواطن العربي في كل المجالات، ودخلت الطبقة المثقفة العروبية التقليدية في حلقة مفرغة، تقوم بالاجترار النظري الميتافيزيقي بدون النزول إلى متطلبات الشارع العربي المعاصر وتطلعاته واحتوائها فكرياً، ثم تفعيلها بما يتماشى ومتطلبات العصر إلى أن وصلت القومية العربية إلى حالة التحنيط، بل أصبحت توصف بالعرقية والتعصب، وأصبحت تهمة حتى داخل الفضاء الجغرافي العربي نفسه.

وعلى خلفية ما سبق ذكره، علينا البحث عن البدائل التنظيرية لإعادة بعث وتنشيط القومية العربية على أسس معاصرة يكون محركها الاقتصاد البيني، بداية من انسياب رأس المال العربي الخاص والعمومي باتجاه المواطن العربي في أي منطقة من مناطق الجغرافية العربية، وهذا لن يتأتى إلا إذا تبنته الطبقة المثقفة العربية في إطار توظيف جديد لفكرة القومية، بعد أن تعطلت وظيفياً منذ عقود، وفقدت بريقها بسبب عدم تجددها بما يتماشى ومتطلبات العصر.

مطلوب من القومية العربية الآن، العمل على تحرير المواطن العربي من الاستعمار الاقتصادي، بعد أن عملت سابقاً على تحرره من الاستعمار البائد، والتحرر الاقتصادي يعتبر اليوم من الأولويات حتى يتمكن المواطن العربي من إيجاد الفرص في الرفاه والعيش الكريم داخل الفضاء العربي، عوضاً أن يتشرد في كل أصقاع العالم، ويفقد الفضاء الجغرافي العربي الخبرات واليد العاملة بكل أنواعها، والتي يستغلها الآخر بكل ذكاء، وبدون أدنى خسائر تذكر.

المهم، أن القومية العربية التاريخية المجترة وجب عليها التجديد قبل التبديد، وهذا الأخير إن حل فسيشمل الجميع، مثقفين ومؤسسات، بما في ذلك مؤسسة الجامعة العربية، المعطلة فكرياً، والتي باتت مجرد هيكل بدون روح ولا وظيفة واضحة.

أخبار ذات صلة

فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!
الدور الرئيسي لإزالة الكربون واللامركزية والرقمنة في تحول قطاع الطاقة


وأخيراً وليس آخراً أقول ما قال الشاعر العربي «لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي» أيام الجاهلية عندما تكالب الفرس على المناذرة والغساسنة في الجزيرة العربية:

أبلغ إياداً، وخلِّل في سراتهمُ

إني أرى الرأي إن لم أُعصَ قد نصعا

يا لهْف نفسيَ إنْ كانت أموركمُ

شتى وأُحكم أمر الناس فاجتمعا