د. واسيني الاعرج

إن النخب الثقافية الأوروبية تحتاج اليوم إلى إعادة قراءة مشاريع القرن الـ19 والقرن الـ20 الكبرى، التي أنجبت المثقف الملتزم بقضايا عصره والمنخرط فيها بقوة، والمرتبط عضوياً بالفئات الشعبية ومطامحها، ومنتصراً للعدالة والحداثة والحرية والليبرالية الثقافية.

المهمة صعبة وما يقع في المحيط الراهن ثقيل جداً، ويحتاج إلى قوة تتشكل من أفراد فاعلين يستطيعون ليس فقط التفكير في المقبل المعقد جداً في ظل الأزمات العاصفة، ولكن أيضاً نقد ممارسات الماضي.

العنصرية مرض العصر ليست أمراً سهلاً، بل ابتذلت حتى أصبحت أو تكاد تتحول إلى أمر عادي، وينشئ المتطرفون مقابلها ما أسموه بالعنصرية ضد الرجل الأبيض، وهو كلام لا يستقيم في النهاية، يستعمل فقط لإراحة ضمير يهتز كل يوم قليلاً.

لما نعود إلى التاريخ نرى مثل هذه الأمراض تنتعش في ظل الأزمات الكبرى، وعندما تفشل النخب في إيجاد حلولها الحقيقية تلصق التهمة في الآخر الجالب لكل الأمراض المجتمعية.

نحتاج اليوم بقوة إلى المفكر «جاك أتالي»، الذي عرف كيف يوصف أزمة العنصرية واللاسامية، في زماننا، التي انتقلت من معاداة اليهودي إلى العربي، أو ربما حتى إلى إميل زولا جديد يصطف بجانب الحق كما فعل مع قضية دريفوس في نهايات القرن الـ19 في رسالته العظيمة، حين قال: «إني أتهم» J’accuse ، الموجهة لرئيس الجمهورية، وهي لا تزال إلى اليوم تطن في الرؤوس، كردة فعل ثقافية ضد الطغيان والظلم والتمادي في اللاحق، على الرغم من مرور أكثر من قرن عليها.

من المؤكد أن ما تقوله الخطابات العنصرية يجد اليوم من يتلقاه في ساحة كل يوم تقضم شيئاً من نور أوروبا وتنوعها الثقافي لحساب أحادية مقيتة تنظر إلى المختلف، المسلم تحديداً، ككائن غير أرضي، ينتمي إلى حضارة دنيا، قادم من مجرة أخرى لا شغل لها إلا تدمير الحضارة الغربية.

أخبار ذات صلة

الأزمة الجزائرية ـ الإسبانية.. والرّسَالة المُوريتانية
السعودية وأمريكا.. «زيارة الحقيقة»


ومن المؤكد أيضاً أن جُملاً عنصرية هاربة من هنا وهناك، في ظل أزمة خانقة يعيشها الأوروبيون بكل أطيافهم وأديانهم بصعوبة وقسوة، يمكنها أن تتحول إلى حقد يتنامى في هدوء وسكينة ليصبح في النهاية عنفاً يصعب التحكم فيه بسهولة، فعقلية التقسيمات الحضارية بهذا الشكل لا يمكنها إلا أن تُرجع الكثير من الأوروبيين إلى زمن يتم فيه الحكم على الناس وفق علامات أوجههم وثقافتهم ولغاتهم ودياناتهم، وليس وفق ما يمكن أن يمنحوه للمجتمع الأوروبي من غنى وإسهام في التطور.

إن العنصرية مثل الوباء في ظل الأزمات الكبرى، والعربي والمسلم هو الضحية المثلى في ظل الأزمات والأفعال الإرهابية التي كان ضحيتها هو قبل غيره، مثلما كان اليهودي في القرن الـ19 والقرن الـ20، ضحية زمانه، فألصقت به كل تهم الدنيا، وقيس شعب ودين بكامله، من خلال ممارسات الأقليات الإجرامية المحدودة.. مشكلة العنصرية هي أنها مثل المارد الذي يظل محجوزاً في قمقمه، لكنه عندما يخرج يصبح تدميرياً وتصعب مراقبته.