خالد الروسان

لا شك أنّ الولايات المتحدة كانت تُدرك سابقا أنّها معزولة في عالم ما وراء البحار، بعيدة كل البعد عن العالم القديم والذي بقي منذ آلاف السنين يشغل مركزية العالم الحضارية، ففيه بدأ التاريخ وظهرت الحضارات، وهو من اكتشف أمريكا وشكّلها.

هذا البعد الجغرافي عن هذا العالم ومركزيته شكّل عقدة لأمريكا، لهذا اختارت أن تخرج من عزلتها وتمارس دورا دوليا وتتدخل في العالم القديم، وقد بدأ ذلك من خلال معركة وقعت بين البحرية الأمريكية وحكومة طرابلس في ساحل شمال أفريقيا الغربي عام (1801)، وقد عملت بعد الحرب العالمية الثانية على التحكّم بهذا العالم ومحاولة نقل مركزيته إليها، لكنّها لم تستطع التغلب تماما لا على الجغرافيا ولا على التاريخ، فاختارت التمركز فيه والهيمنة عليه مع استمرار العمل على جعل نيويورك مركزية جديدة له.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف ينظر ويتعامل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صاحب التوجهات السياسية الجديدة مع هذا المُعطى، خصوصا وأنّه يرفع شعار «أمريكا أولا»؟، في الحقيقة ورغم التغيرات الحاصلة في سياسات واشنطن اليوم إلاّ أنّها ما زالت مصرّة على اللعب بملعب العالم القديم وبإعادة تشكيله وصياغته بما يخدم مصالحها ولم تتراجع عن ذلك، لكنّ ترامب وفريقه يريدان تغيير قواعد اللعبة عبر استحداث صيغ وشروط جديدة للتعاطي معه، منها مثلا محاولة تغير طبيعة العلاقة مع الحلفاء عبر سياسة الدفع مقابل الحماية بِدأ من اليابان ومرورا بالشرق الأوسط وانتهاء بأوروبا، وإلغاء المعاملة التفضيلية الاقتصادية وغيرها معهم.

وتعتقد إدارة ترامب كذلك أنّ العالم القديم بمشاكله وصراعاته كان سببا في ظهور وتشكّل أزمات أمريكا خاصة الاقتصادية منها، وبناء عليه يجب أن يتحمل عبء إنقاذها من مشاكلها ومعظلاتها الحاصلة اليوم وبكل الطرق، وتريد أيضا من أقطابه ودوله أن يبذلوا جهدا أكبر في إدارة العالم والمحافظة على أمنه عبر المشاركة العسكرية واللوجستية وغيرها، وأن يتواجدوا في بعض الساحات الدولية بحسب شروطها وفهمها وإدارتها طبعا، إلى غير ذلك من التوجهات والسياسات الجديدة.

إنّ أمريكا ستبقى تعاني من معظلة الجغرافيا والتاريخ والمركزية الحضارية، وأي ارتداد لها عن العالم القديم سيحوّلها من قوة عظمى متحكّمة بالعالم إلى دولة كبرى داخل حدودها فقط، خصوصا وأنّ كل المنافسين الكبار لها متواجدون فيه.


أخبار ذات صلة

الأزمة الجزائرية ـ الإسبانية.. والرّسَالة المُوريتانية
السعودية وأمريكا.. «زيارة الحقيقة»