د. محمد المعزوز

ما يحدث في أمريكا، لا يعبر في العمق عن ثورة ضد العنصرية المتجدّدة كما يُروِّج له كثير من التحاليل السيّاسية والفكرية التي تواكب أحداث المظاهرات، لأن العنصرية ترسّخت فيها كثقافة حياتية مُضْمرَة غير مُعبَّر عنها بالمباشر وفي العلن.. إنها ثقافة متواطأ عليها بالمسكوت عنها ما بين الجنسين الأبيض والأسود، تُمارس يومياً في الإدارة والعلاقات اليومية، وهناك اعتراف متبادل وقبول لا رسمي لواقع الأمر بالرغم من الفوْرة المسترسلة للخطاب السياسي المتناوب عليه بين الجمهوريين والديمقراطيين حول نبذ العنصرية.

وليس هذا الخطاب إلا بهرجة سياسية بدلالة الكذب وطمس الحقيقة، لأنه ينتصر للمفارقات الكبرى بين الحقيقة الاجتماعية للعنصرية والنصوص القانونية التي تُجرّمها، فحتى المنظمات الحقوقية لمناهضة العنصرية، وقفت عند حدود النص القانوني فقط، كما وقفت عند حدود الشعارات التي لم تلُامس حقيقة هذا التواطؤ الذي أصبح إجباراً تاريخياً وحمولة نفسية إذعانية للسُّود.

ليست واقعة جورج فلويد إلا نتيجة لهذا التواطؤ الذي لم يحسم بأي مصالحة سياسية عادلة تؤمن بوحدة المجتمع الأمريكي ومساواة أفراده، فقتلُ الرجل الأبيض للأسود بالطريقة التي مات بها فلويد هي لحظة من كرونولوجيا ذلك المسكوت عنه التي جعلت الرجل الأسود كائناً للاستعمال والتوظيف كمستأجر خادم للتراب الأمريكي.

ولم يكن باراك أوباما إلا وجهاً لتوظيف الأيديولوجيا العميقة لليبيرالية المتوحشة، وتسويقها للعولمة باعتبارها خلاصاً «ديمقراطياً» للعالم وجسراً للمساواة والحرية، وعبّر ترامب عن هذه الصفة الاستعمالية للسود الذين وصلوا أعلى المراتب السياسية بالواضح وهو يهاجم أوباما ويطالبه بالعودة إلى كينيا مسقط رأس والده مع التشكيك في شهادة ميلاده.

الذي ينبغي التأكيد عليه، أن تزامن هذه المظاهرات الاستثنائية في تاريخ أمريكا مع جائحة كورونا، يُعبّر عن مخاض حقيقي لانكشاف الحقيقة وزيف خطاب الليبيرالية الغربية للحرية والديمقراطية، ولتناقض السياسة الأمريكية في العالم وهي تدوس سيادات الدول وتعاقبها لعدم ممارسها للديمقراطية وتعنيف شعوبها، فأي تبرير إذن ستقدّمه للعالم وهي تُبدع في تعنيف وتقتيل واعتقال متظاهرين.

لقد كان لجائحة كورونا فضل إماطة اللثام عن حقيقة الدولة الأمريكية، بحيث انكشفت هشاشة هذه الدولة أمام فيروس لا مرئي أفقدها الدهشة التي كانت للعالم حيالها، واليوم بدأ سقوط هذه الدهشة بتلك المظاهرات الشعبية، التي بلغت حد العنف المتبادل ومحاولة اقتحام البيت الأبيض.

أخبار ذات صلة

الأزمة الجزائرية ـ الإسبانية.. والرّسَالة المُوريتانية
السعودية وأمريكا.. «زيارة الحقيقة»


إذن، لا نعتبر هذه المظاهرات نتيجة مطلقة لمقتل فلويد، إنما هي جزء سطحي لهذه النتيجة، لأن هذه المظاهرات في العمق هي تعبير عن الوعي بفكّ أي ارتباط بعقدة التواطؤ الاجتماعي حول قبول تراتبية العنصرية.. وما يعبّر عن هذا الوعي تظاهر الأبيض والأسود معاً بحمولات دينية وثقافية وعرقية مختلفة، يجمعهم شعار «أريد أن أتنفس».