د. محمد المعزوز

لا أحد يجادل في أن العالم خلال العشرية الأخيرة عرف منعطفات كثيرة ومعقدة مسّت الجوهر التقليدي لمعنى السياسة والاقتصاد والهوية والأخلاق، وما يتوجب الوقوف عنده هو الوقع الذي أحدثته هذه المنعطفات على كينونة الإنسان بما هو فرد وجمع يعد أساس التجمع الإنساني، ولم يكن ممكناً لهذا التجمع أن يستقيم عبر نسق حضاري ضخم، شهد عليه التاريخ المتوالي بكل دقائقه، إلا بتبلور مدنية متدرجة صقلها العقل وقواها تكرار التراجيديا المتمثلة في الحروب والمجاعات والأوبئة، كفضاء للألم ينتج العظة والتجربة.

يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أن هذه التراجيديا المُسلطة على الإنسان جعلت من التاريخ العام للمجتمعات ما يخير الفرد بين أمرين، إما أن يرتقي بالمدنية إلى مصاف العقل بدون الوقوع في تناقض الانجذاب إلى الميتافيزيقا وحينذاك ستكون السياسة ربيبة المدنية وفضاء للإنسان الباحث عن التجديد والقدرة على التكيف مع الطوارئ، أو أن يكون الفرد خلف المدنية تسيّره ضوابط الدولة باعتبارها حامية له كمستهلك لا غير، وهناك ستكون السياسة موضوعاً للاستلاب وطوقاً ميتافيزيقياً لا يظهر فيه العقل إلا باعتباره منتوجاً خالصاً للدولة وليس من صنع الفرد.

هذه التجاذبات خلقت فعلاً منعطفات شكّلت أزمة تاريخية أصبح الإنسان المعاصر يعيش بموجبها حالة اللايقين والشك في الوجود، الذي يؤطر العالم وفي المنظومة الأخلاقية التي كانت تاريخياً توثق علاقته بنظيره وبمعاني الحياة.

يأتي هذا الكلام في سياق تأمل عابر للأخطاء الجسام التي ارتُكبت في ظل ما أُطلق عليه النظام الدولي الجديد، وفي مآلات الإفلاس التي وصل إليها الفرد وهو يواجه تداعيات الأزمة المالية لسنة 2008، وفي تراجيديا جائحة كوفيد-19 التي كشفت عن الهشاشة المريعة لعالم توهم قوة زائدة بتملكه للذكاء الاصطناعي وللتكنولوجيا المتقدمة.

إذن، أي إمكان قادرعلى أن يُخرج الإنسانية من مأزقها التاريخي الذي أضحى اليوم تهديداً مباشراً لمستقبلها القريب؟

لا إمكان يلوح في الأفق إلا بإسقاط النظام الدولي الذي لم يكن أبداً في خدمة الفرد، ظن أن تضخيمه للعقلانية عبر إنجازاته الرقمية والتكنولوجية سيقوي من شوكة الليبرالية المتوحشة، التي ستمكنه من مناعة بيو - سياسية لمقاومة أي مغايرة مرتقبة.

أخبار ذات صلة

الأزمة الجزائرية ـ الإسبانية.. والرّسَالة المُوريتانية
السعودية وأمريكا.. «زيارة الحقيقة»


لذلك لم يعمل على جعل السياسة موضوعاً للاستلاب فقط، بل فضاء كونياً لإلغاء الكينونة الجماعية والاستفراد بالدول، ومن ثمة بالأفراد لقتل سيادتها وطمس الهويات، بذلك لم تعد المدنية نتاجاً للعقل الجماعي أو تتويجاً لمنظومة أخلاقية حامية لآدمية الفرد، وإنما تعبيراً عن انهيار مشروع العقل في استكمال مدنية تُجل الإنسان وتجعل من الفرد مصدر استمرار الحياة وبناء آدمية كونية، يفترض فيها أن تكون أصل كل نظام دولي جديد يناقض النظام الحالي.

هذا لا يعني نقد العقل والحداثة كما دأبت الليبرالية المتوحشة على صناعتهما بالدعوة إلى الديمقراطية والحداثة فقط، ولكن يعني أيضاً نقد السياسة التي أصبحت موضع شك وريبة، ورهن ميتافيزيقا التجريب المقترن بالفشل وقصور النظر.