محمد سعدي كاتب ومحامٍ ــ الجزائر

من الواضح ـ أو على الأقل حسب فهمي ـ أن ما حدث مؤخراً في غزة والقدس من صراع دموي مدمر لمدة 11 يوماً، مجرد تحريك للسَّواكن لأغراض سياسية من جهة، ولأغراض انتخابية مستقبلية منتظرة في فلسطين، وربح نقاط استباقية لطرف على حساب طرف آخر من جهة ثانية، والثمن لذلك هو دماء الفلسطينيين وأعراضهم وممتلكاتهم باسم المقاومة لا غير، وأي مقاومة؟!

والدليل هنا، أن ما وقع في غزة انطلق فجأة بواسطة زرٍّ مجهول، وتوقَّف فجأة وبنفس الزر دون أدنى فائدة تذكر لفلسطينيي غزة أو غيرهم، وبدون أي شروط تذكر، وبقيت الأوضاع على حالها داخل القدس وكأن شيئاً لم يكن، باستثناء بيانات الانتصار الجوفاء المُسوَّق لها إعلاميّاً بفعل فاعل، وهو صاحب الزر الخفي طبعاً.

الحقيقة الميدانية والواقعية خلاف ذلك تماماً، لأن ما وقع في غزة أعطى الفرصة لإسرائيل لحشد الرأي العام الدولي الرسمي الغربي كله لصالحها، وعلى رأس الجميع أمريكا والتي اعتبرت الدولة العبريّة ضحية لمجرد سقوط عشرة أو خمسة عشر إسرائيلياً قتلى وبعض الجرحى، بينما سقوط المئات من الفلسطينيين بين قتيل وجريح، وما لحق غزة من دمار لم يعره الرأي العام الرسمي الغربي أي اهتمام، رغم ارتفاع بعض الأصوات الشعبية الغربية هنا وهناك، مُندِّدة بما وقع في غزة، ولكن هذه الأصوات لا يُعوَّل عليها أصلاً، لأن الأهم هو القرار الرسمي للدول.

نقطة أخرى استوقفتني في وقائع غزة هي أن الجزائر مثلاً اندفعت دبلوماسيتها بكل ثقلها من أجل عقد جمعية عامة استثنائية للأمم المتحدة وعُقدت الجمعية العامة فعلاً، وكانت كلمة وزير الخارجية الجزائري قوية وواضحة، بل محرجة للكثيرين، وأدت إلى انسحاب سفير إسرائيل وممثلها في الجمعية العامة، لكن هذا المجهود تم إفشاله، وحتى قبل انتهاء أشغال الجمعية العامة وصدور البيان الختامي للجمعية، وتم الإعلان على توقيف إطلاق النار من الجانبين، وبدون شروط تذكر وفي وقت محدد بدقة، وهذا دليل آخر على أن ما وقع في غزة ما هو إلا تحريك سواكن لا غير، وليس عملاً تحررياً كما يرى البعض.

والخلاصة، من الواضح أن هناك توجهات جديدة في الملف الفلسطيني ككل، وأن تحرير فلسطين كليّاً أو جزئيّاً وبالطرق التقليدية أصبح مستحيلاً، بحكم الجغرافيا وأيضاً باعتبار أن الحرب المقدسة قد انتهى زمنها.

ووضع «القدس»، سيكون في أحسن الأحوال «مدينة دينية» على شاكلة الفاتيكان تحت إشراف معين، وتبقى بقيّة الحقوق الفلسطينية الأخرى خاضعة للتعويضات، وسيظل الشتات الفلسطيني قائماً بل بديلاً عن التوطين خارج فلسطين، ومن المرجح أن يكون هذا أقصى حل تصل إليه المعضلة الفلسطينية ككل على المدى القريب والمتوسط، في انتظار البعيد - البعيد جدّاً ـ وهذا في علم الغيب، ومتروك للأجيال المقبلة.

أخبار ذات صلة

فلتتوقف الحكومات عن خفض أسعار البنزين!
الدور الرئيسي لإزالة الكربون واللامركزية والرقمنة في تحول قطاع الطاقة


هذه النظرة ربما يعتبرها البعض تشاؤمية أو محبطة، بل حتى خيانة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ككل، لكن في حقيقة الأمر هي نظرة واقعية انطلاقاً مما وقع في غزة مؤخراً، وما سيقع مستقبلاً في غياب وحدة الصف الفلسطيني، ووحدة الهدف والوسائل، وترتيب التحالفات.

ويبدو أن مستقبل القضية الفلسطينية الحقيقي في يد عرب 48، الذين وجب دعمهم وتقويتهم ليتمكنوا من خلق لوبي فلسطيني حقيقي وقوي داخل المؤسسات الرسمية الإسرائيلية، وإيجاد فضاءات لهم داخل الدول الغربية، ذلك لأنهم وحدهم القادرون على التعاطي مع المستجدات العالمية والإسرائيلية الجديدة، وهذا لإعادة قضية فلسطين بكل أبعادها إلى دوائرها الحقيقية باعتبارها قضية تحررية، وليست قضية صفقات مشبوهة، أو سلعة تباع وتُشترى في الأسواق العربية والإقليمية والعالمية.