محمد زاهد غول

إن الهاجس الأكبر الذي شغل المفكر والفيلسوف «إدوارد سعيد» هو دور المثقف في الحياة العامة، فهذا دفعه ليشكل وجهة نظر خاصة به حول كل ما يقرأ ويسمع ويشاهد من مواقف فكرية غربية نحو الشرق، منها: كتابات المستشرقين وغيرهم، حيث لم يكن قادراً أن يسكت عمّا يقرأ في كتابات المستشرقين عن أهله وقومه وهويته الحضارية الأصلية كذباً وزوراً، ولا أن يغلق أذنيه عمّا يسمع من زملائه الأكاديميين الغربيين من افتراءات عن عادات المسلمين وثقافاتهم وأديانهم وتاريخهم، فأخذ بالرد عليهم أكاديميّاً بكتابات علمية رصينة.

هذه الكتابات الناقدة لإدوارد سعيد للاستشراق والمستشرقين ومناهجهم، اضطراه للكشف عن وظيفة الاستشراق في خدمة الأهداف الأيديولوجية والكنَسية والأطماع الكولونياليّة الغربيَّة، فيما كتبوه عن الشرق بصورة مشوهة وخادعة، لم تكن هذه الصورة المشوهة هي ما أثارت نقد إدوارد سعيد فقط، بقدر ما صدمه قبول العلماء والأكاديميين والباحثين لهذا التوظيف المغرض، لأن المتوقع منهم أن يكونوا باحثين محايدين، وأكاديميين يخضعون للنتائج العلمية التي يتوصلون إليها، بكل مصداقية وأمانة علمية، لا أن يكونوا أدوات بيد المشاريع الغربية نحو الشرق فقط، على أن إدوارد سعيد لم يجعل كشف هذه الفضائح الثقافية غايته ولا هدفه الكلي، بل كان متابعاً للحياة الأكاديميَّة والثقافيَّة في الغرب ومُشاركاً فيها.

لم يستطع إدوار سعيد أن يكون صاحب هوية واحدة، فهو ابن الشرق نشأة وابن الغرب أكاديميّاً، وكان في مقدوره أن يصبح مسايراً للأكاديمية الغربية ومواقفها العلمية والثقافية والفلسفية والفيلولوجية عموماً، ولكنه كغيره من المفكرين من أصول عربيَّة أو شرقية درس في الغرب، وتخرج في أكبر جامعاته، وعمل فيها أيضاً، ولم يكن يستطيع أن يكون تابعاً لتحيُّز كتابات المستشرقين الغربيين ضد الشرق، ولا أن يتجاهلها لأنها تمسُّ هويته الأصلية، ولأنه في دروس الأكاديمية ومحاضراته العلميّة فهو مضطر لأن يكون صاحب مصداقية علمية أمام طلابه ومتابعيه، وبالتالي سيضطر لنقد كتابات المستشرقين الخاطئة، ويمكن القول الكاذبة والمزورة للحقائق، أو أن يظهر بلا هوية حضارية أصلية، وهذا يتناقض مع شخصيته العلمية.

هذا الموقف الأكاديمي الصادق لإدوارد سعيد جعل منه شخصية أكاديمية مرموقة في قطاعات غربية، وربما لولا بعض مواقفه السياسية وميوله اليسارية لكان هناك إجماع كبير على متانة مواقفه العلمية في الجامعات الغربية قبل غيرها.

أخبار ذات صلة

الأزمة الجزائرية ـ الإسبانية.. والرّسَالة المُوريتانية
السعودية وأمريكا.. «زيارة الحقيقة»

لقد صنع إدوارد سعيد بمواقفه الأكاديمية الجريئة اسماً أكاديميّاً لامعاً في العالم أجمع، وأصبح نموذجاً في المصداقية العلمية أمام قطاعات أكاديمية واسعة في الشرق والغرب معاً، وأصبحت كتاباته ومواقفه العلمية نموذجاً للمفكر الأكاديمي النَّاقد.