محمد منصور

اقتربت الساعة من تمام الرابعة بالتوقيت المركزي للولايات المتحدة الأمريكية، ومع صدى دقاتها، رن جرس هاتف في منزل قصي بولاية تكساس الأمريكية، مخترقاً الهدوء الذي خيم على البيت الذي يسكنه الأستاذ الجامعي المرموق، ومع الدقة الثالثة، استيقظ «فِريّد مراد» الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 62 عاماً.

جاءه صوت عبر المحيط، يُخبره بنبأ سار أنساه القلق والتساؤل حول طبيعة المتصل الذي لا يستطيع الانتظار حتى الصباح.

على الطرف الآخر من الهاتف، كان سكرتير لجنة نوبل واقفاً في قاعة مليئة بالصحافيين، يُعلن عن الفائزين بالجائزة عام 1998 في فرع الطب، روبرت فورشجوت ولويس أجناروا، والمستيقظ ليلاً فريد مراد.

حين أتاه الخبر، عرف مُراد أن حياته تغيرت للأبد، سمع الجلبة الآتية من أمام منزله، وواجه زُمرة من الصحافيين، وقف مبتسماً أمام المصورين، قائلاً: تلك مفاجأة تستحق أن يستيقظ من أجلها المرء مبكراً، فجائزة «نوبل» لا تأتي في العمر سوى مرة واحدة.

«الرؤية» حاورت العالم الكبير، الذي استحق «نوبل» عن جدارة بعد أن اكتشف التأثير الحيوي لجزيء «أكسيد النيتريك» في عمليات بيولوجية أساسية تفيد القلب وأشياء أخرى .. وتالياً نص الحوار

كيف كانت ظروف معيشتك في الطفولة؟

أخبار ذات صلة

«مستحضرات التجميل» تسعى لخفض أسعارها في 2022.. هل تنجح؟
توقعات بمستقبل أفضل لسوق العلامات الجمالية في الصين


- تزوج والداي في سنوات صعبة، خيم عليها الكساد الاقتصادي الكبير الذى حدث بأمريكا في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت شقتنا متواضعة وضيقة، تقع خلف مطعم اشتراه أبى لاحقاً، وكنت أحلم آنذاك بشراء منازل باهظة الثمن وسيارات فارهة.

ولكن والدي كان يردد طوال الوقت أن التعلم هو السبيل الوحيد للارتقاء في المجتمع.

هل ساعدت والدك في إدارة المطعم الذي اشتراه؟

- بالتأكيد، كنت أغسل الأطباق، وفي وقت لاحق عملت كنادل في المطعم طوال فترة الدراسة الابتدائية والثانوية، وتعلمت حفظ طلبات الزبائن وصيانة المعدات وحساب فواتيرهم.

والــــدك مسلم ووالدتك مسيحية، كيف أثر ذلك في تكوينك الفكري؟

- لم يُجبرني والداي على اعتناق أى دين، في الحقيقة أن ذلك الاختلاف ساهم في تكوين شخصيتي بالإيجاب، وتعلمت قيم التسامح، فالدين لله والأرض والسلام لكل البشر.

أصبح إخوتي كاثوليكيين، وتزوجت مسيحية، كما تزوجت ابنتي من رجل يهودي، فيما تزوجت الأخرى من رجل مسيحي.

وفي رأيي أن الاختلاف في الدين لا يُعول عليه، فلن نحاسب سوى على أعمالنا وما قدمناه لأخوتنا في الإنسانية من خير أو شر.

ما الذي دفعك لدراسة العلوم الطبية؟

- حين كنت في المدرسة الثانوية، طُلب منا كتابة تقرير عن المهنة التى نريد أن نعمل بها في المستقبل، كانت خياراتي مُحددة، إما طبيب أو صيدلي، وبعد أن تخرجت من المدرسة الثانوية قررت الالتحاق بجامعة شيكاجو والتي كان لديها برنامج جديد لدراسة الطب.

ولم يستطع والدي تحمل تكاليف الدراسة، فتقدمت للحصول على منحة، غير أنني فشلت في اجتياز شروطها، وتقدمت لجامعة أخرى في ولاية أنديانا وتخصصت في علوم الكيمياء، ثم التحقت بجامعة «كيس وسترن» وحصلت منها على شهادتي الطبية ودرجة دكتوراة الفلسفة في علم الدواء.

ما هي الإرهاصات المبكرة لاكتشافك أكسيد النيتريك؟

- بعد أن حصلت على الدكتوراة، انتقلت إلى جامعة ستانفورد، ومنها إلى وظيفة نائب رئيس في مختبرات أبوت، بعدها قررت تأسيس شركة في مجال طب الشيخوخة، إلا أن الفشل كان حليفي أيضاً، فقررت الانضمام لجامعة تكساس، وكنت أعمل على دراسة تأثير أكسيد النيتريك في الأوعية الدموية.

وأثناء وجودي في جامعة تكساس، وصلت إلى الاكتشاف الذي قادني للحصول على جائزة نوبل، وهو أن ذلك الأكسيد يُمكن أن يؤدي لتوسيع الأوعية الدموية، والوقاية من الجلطات، والسيطرة على أمراض القلب الوعائية.

ما تأثير فوزك بجائزة نوبل في مجريات حياتك؟

- غيرت «نوبل» حياتي للأبد، خصوصاً أن ذلك الاكتشاف قاد لإنتاج واحد من الأدوية الأكثر مبيعاً في التاريخ (الفياغرا)، فأصبحت «رجل الفياغرا» بعد أن أهملت وسائل الإعلام جميع فوائد أكسيد النيتريك، وتحدثت فقط عن الجائزة التي ذهبت للرجل الذي جعل «الجنس أفضل».

وبكل صراحة ووضوح، أنا لست رجل الفياغرا، وإنجازي العلمي لا يتعلق بـ «الجنس» وحده.

هل تخطط للتقاعد؟

لا، سأعمل حتى الموت.

كيف ترى تمويل البحث العلمي في البلدان المتقدمة؟

- التمويل ضعيف في كل مكان، وتدفق الأموال يُعد أكبر المشاكل التي تواجه البحث العلمي.

لماذا؟

- لأن الساسة لا يريدون دفع أموال دون الحصول على مقابل.

هل ترى أن هناك حلاً لتلك المشكلة؟

- للأسف لا يوجد حل واضح في الأفق، والبحث العلمي يحتاج تدفقاً مستمراً للأموال ولن يأتي ذلك إلا عبر الحكومات، والمشكلة أن بعض المسؤولين في حكومات العالم لا يقدرون القيمة الحقيقية للعلوم والاستثمار فيها.

كيف ترى مستقبل البحث في مجال الطب الحيوي؟

- ستتصاعد قوى جديدة تقوم بأبحاث فريدة من نوعها في ذلك المجال، وستؤدي تلك الأبحاث للكثير من الاكتشافات الملهمة التي تساعد الناس على تخطى آلامهم وشفاء أمراضهم.

كيف ترى مستقبل العلم؟ وفي أي مجال سوف يزدهر أكثر؟

- مستقبل العلم مُشرق في كل الأحوال والأزمان، العلم قطار سريع ينطلق إلى اللانهائية، يسحق في طريقه كل الصعوبات، وقد تُقلل العقبات سرعته، لكنها لن توقفه.

وأتوقع أن تندمج العديد من التخصصات مع بعضها البعض، فمثلاً؛ ستزدهر في المستقبل العقاقير النانوية التي ستساعد على إصلاح تلف الأنسجة ومهاجمة الأورام، وسيشترك في تصميم تلك العقاقير علماء من فروع علمية مختلفة، كالفيزياء والكيمياء، علاوة على المهندسين، والأطباء.

هل ستساهم تلك العقاقير في القضاء على الأورام؟

- بكل تأكيد، وأعتقد أن هناك بالفعل تجارب على أدوية نانوية تتعرف على السرطان وتدمره، فضلاً عن العلاج المناعي الذي سيحدث ثورة في علاج الأورام.

وأخشى أن يكون العلاج للأغنياء فقط في البداية حتى ينخفض سعر الدواء.

أما أمراض القلب الوعائية، فمعظمها يُمكن الوقاية منه باتباع الأنظمة الصحية السليمة وممارسة الرياضة والابتعاد عن التدخين والكحول.

بم تنصح الشباب للوقاية من شرور أمراض القلب؟

- نصيحتي لهم: اهربوا من الوجبات السريعة واستعينوا على الأمراض بالإكثار من تناول الفاكهة والخضراوات وممارسة الرياضة بانتظام.

النشأة:

ولد أبو جابر مراد في ألبانيا عام 1892، وكانت عائلته تعمل في رعي الغنم، فلم يحظ بتعليم جيد، لكنه كان ذكياً ولبقاً، وقبل نشوب الحرب العالمية هاجر إلى أمريكا ليعمل في حرف متنوعة، ثم استقر به المطاف بمصنع للسيارات في ولاية شيكاجو.

أما أمه فولدت عام 1918، وتلقت التعليم الأساسي، فظروف فقر والديها أجبرتها على ترك التعليم في المرحلة الابتدائية، وهربت في سن السابعة عشرة من منزلها لتتزوج والده، وأنجبت منه ثلاثة أطفال.