د. واسيني الاعرج

حين كنت أكتب «سوناتا لأشباح القدس» لم تكن المشكلات السياسية وحدها حاضرة في رأسي وقلبي، فقد كنت مسلحاً بكل هذا وبأكبر منه.

لقد كنت داخل هاجس الموت بعيداً عن وطني، ما معنى أن تموت وأنت تفكر في قبرك الافتراضي؟، أين سأدفن؟، في البلاد التي احتضنتني أيام الأزمة القاسية، بجانب الكثير من رفاق الرحلة الذين أتعبتهم الحياة فاختاروا الاستراحة قريباً من أولادهم، وبعيداً عن التربة الأولى، فأينما كانت حريتي فثمة وطني؟، أم في تربتي التي شكلتني بكل ما تحمله من آلام وأصداء وفرح وخوف؟، انتابني فجأة المناضل والباحث الفلسطيني، إدوارد سعيد، وهو مريض باللوكيميا التي كانت تأكل جسده في الخفاء، قبل أن تسرقه من هذه الدنيا في 25 سبتمبر 2003، بأحد مستشفيات نيويورك، عن عمر ناهز 67 سنة.

كان يريد أن يدفن في مدينته القدس، لكن السلطات العسكرية الإسرائيلية منعته من ذلك ميتاً، فأوصى بحرق جثته ونثر ودفن رماده في لبنان، وهو ما تم في 30 أكتوبر 2003، فنقل رماده إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية في جبل لبنان.

لا أدري إذا كنت، وأنا أتابع وصية بطلتي مي قبل موتها، أتحدث عن إدوارد سعيد، أم عن نفسي لأني في خضم الرواية أُصبت بجلطة دماغية أدخلتني في غيبوبة استمرت خمسة أيام، خرجت منها بلا مضاعفات صحية، ولكن بكمٍّ كبير من الرغبة في الكتابة بلا هوادة، وعندما عدت إلى الرواية بعد خروجي من المستشفى، وفتحت مخطوطة سوناتا لأشباح القدس، آخر كلمة كتبتها وقتها هي كلمة موت.

تناسيتها وتوقفت من جديد فجأة توقفت عند كلمة سوناتا لأجد نفسي في ساحة بعيدة عني قبل أكثر من نصف قرن، عندما هنأني مدير ثانوية بن زرجب بتلمسان بالجزائر، في احتفالية حضرها آباء التلاميذ المتفوقين، من بين الكتب والروايات التي مُنحت لي كهدية على تفوقي، كانت رواية سوناتا لكروتزرLa Sonate à Kreutzer للكاتب العظيم ليون تولستوي.

رواية تجسد الرغبة الثلاثية: الزوج بوزدنيتشيف Pozdnychev وزوجته الحزينة ذات الخمسة أطفال، وعازف الكمنجة الماهر تروخاتشيفسكي Troukhatchevski الذي يحب زوجة صديقه وتنتهي الرواية بمقتل الزوجة بسبب غيرة زوجها.

أخبار ذات صلة

مزيفون بعمق!
العالم ينقلب


لا أعلم العلاقة الرابطة والسرية في نص سوناتا لأشباح القدس، لكني متأكد من أنها موجودة في مكان ما، وزاوية ما وربما كان ذلك شأن النقد وليس شأني.

من قرأ الرواية سيعرف أن مي لا تتحدث عن قدس افتراضية، ولكن عن قدس قضت فيها طفولتها كاملة، وكل ما حكته عن القدس عرفته وعاشته ودفعت ثمنه بالمنافي والفقدان، فهي في عمق المدينة وفي حضنها، لكنها غادرتها منذ زمن بعيد وعاشت في نيويورك، لتستيقظ فيها من جديد في لحظات الموت. قدسها التي عاشتها بصحبة أمها التي اغتيلت وأهلها، وأعادت تشكيلها من خلال لوحاتها التي منحتها الحياة والقدرة على الاستمرار والحياة.