د. شهد الراوي

تغير إليف شافاق في آخر رواياتها لعبة زمن الطفولة البائسة الكلاسيكية، التي تعرفنا عليها في روايات مثل جين آير، وأوليفر تويست، وديفيد كوبر فيلد، وسواها من الأعمال الروائية الخالدة، التي ترددت أصداؤها في مئات الأعمال الأدبية، بحيث نجدها تبدأ بتدوين سيرة بطلتها «ليلى تكيلا» من الدقائق الأخيرة في حياتها، والتي تنسجها على فكرة علمية مفادها: «إن الدماغ البشري يمارس عمله بعد الوفاة لمدة 10 دقائق و38 ثانية»، تذهب البطلة خلالها في رحلة تذكر تبدأ من لحظة ولادتها في قرية تركية نائية عن إسطنبول ـ مكان وفاتها.

وخلال تلك الرحلة نمضي مع الجثة المرمية في القمامة، وهي تستعيد مع نفسها سيرة فريدة ومدهشة وحزينة؛ معظم أبطالها من المهمشين والمنبوذين اجتماعياً، وهو هاجس يكاد يحتل معظم روايات إليف.

في كل مرة أنتهي فيها من رواية لها، أطرح على نفسي سؤال الحرية في الكتابة، وإلى أي مدى يُمْكننا في ظروفنا الاجتماعية أن ننطلق في مسعانا الإبداعي، ونحن نمشي بين حقول ألغام ثقافية وعرقية وطائفية وإثنية وحتى أخلاقية.. فنحن نرتبك أمام الجغرافيا والتاريخ وحتى اختيار أسماء الأبطال وهوياتهم الجندرية.

بالطبع لا أستطيع أن أنشغل بالوقت الحالي، بمثل تلك القضايا الصادمة التي تطرحها شافاق عن المختلفين في الطبيعة والسلوك والجندر، الذين نسميهم الأقليات أو الهوامش المحرومة من حقها، ولست نسوية على طريقتها، بل أميل شخصياً إلى نظرة النسويات الأوائل من مثل «الأخوات برونتي» للمرأة ودورها، بالمطالبة باستقلالها واحترام قرارتها الفردية ونمط حياتها.

لا أملك ترفاً أكثر من ذلك، في الظروف التي نعيشها في مجتمعاتنا العربية، والقريبة من مجتمع القرن التاسع عشر، حيث عاشت عائلة برونتي!

أخبار ذات صلة

مزيفون بعمق!
العالم ينقلب

ما يشغلني هو سؤال الحرية، أفكر بشروط تحققها وبالنظرة الازدواجية لمجتمع «مدني» يعد المغامرة والجرأة و«تجاوز الحدود» قيمة إبداعية، عندما تقبل عليه من ثقافات أخرى، ولكنه يفتش في ضمائر الكاتبات المحليات، ويبحث في سطورهن عن جملة واحدة لا تناسب مزاجه المحلي الوقور.

لست مغرمة ببطلات وأبطال رواية الدقائق العشر و38 ثانية، كما هي الحال مع بطلات بنات حواء الثلاث.. نعم أحزن لمصائرهن الموجعة والمؤلمة وأقدارهن القاسية، ولكن في الوقت نفسه، أحسد إليف شافاق، هذه الحكَّاءة الساحرة التي تكتب بحرية كأنها القارئ الوحيد لرواياتها، أو كأن كل قرائها هم إليف شافاق.

لأنها ابنة حياة مختلفة وعالم مختلف، يتجاوزنا زمنياً في همومه الاجتماعية والثقافية، وكأننا من عالم موازٍ آخر، ونحن نعلم جميعاً أن حدود موضوعاتنا هي حدود عالمنا.