عبد الرحمن النقبي

عندما يسمع الإنسان كلمة «حرب»، يتبادر إلى ذهنه بشكل تلقائي، الدمار والقتل والتشريد وكل فعل لا إنساني ولا أخلاقي مرتبط بالحروب.

وأثناء قراءتي لأحد كتب التاريخ منذ مدة طويلة، ذكر صاحب الكتاب بأنّ للحروب، على عكس وجهة نظر غالبية البشر، فوائد على البشرية، بل ويُنسب إليها كثير من الفضل في تقدم الأمم وبناء الحضارات، وهو الأمر الذي لم أتقبّله وأستوعبه في بادئ الأمر، وهذا الأمر ذكّرني بالمقولة، التي تقول بأن حرائق الغابات تحرق كل ما يقف في طريقها وتبيد الغابات، لكن من رماد هشيمها تُولد حياة جديدة، والحروب كذلك.

ونظرة فاحصة ومتمعّنة لتاريخ الحروب والحضارات بعد ذلك، جعلتني أتقبّل هذا الزعم تدريجياً رغم مرارته، فلولا التلاقح الثقافي بين الأمم أثناء الحروب عبر العصور، لربما لم تصل البشرية إلى ما وصلت إليه من تقدّم في عصرنا الحاضر.

فأثناء الحروب، يحدث بالعادة أن يقوم الطرف الأدنى حضارياً بنقل التطور الحضاري ممن هو أعلى منه، وهو الأمر الذي بإمكاننا أن نستشفّه، على سبيل المثال، إبان قيام الدولة الأموية، حيث أتاح لها الاحتكاك المباشر بالحضارتين الفارسية والبيزنطية أن تنقل عنهما العديد من القوانين والممارسات التي ساعدتها على بناء الدولة الجديدة وتثبيت أركانها، وما الدواوين وبناء الجيوش إلا بعض الأمثلة على التلاقح الثقافي الإيجابي المفيد الذي ينتج عن الحروب بين الأمم. ورغم فضل المسلمين الكبير على الغرب فيما وصلوا إليه من تقدّم وتطوّر، إلا أنّ هذا الفضل العظيم للمسلمين لا يُشار إليه إلا نادراً وعلى استحياء.

إذا ما استجدينا مثالاً آخر على ما قد تحمله الحروب من إيجابيات في العصر القريب، فلن نجد مثالاً أكثر وضوحاً من اليابان. فبعد أن خاضت حروباً دموية مع جيرانها، وتم استهدافها بقنبلتين نوويتين، أعلنت استسلامها وفتحت صفحة جديدة في تاريخها، قادتها لأن تُصبح من أكثر دول العالم تقدماً وتحضّراً.

يحضرني هنا موقف الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين الذي لم يخجل من ذكر فضل الإيطاليين على فرنسا، والذين كانوا وقتها ألدّ أعدائهم في منتصف الألفية الثانية، حيث اعترف وبكل شجاعة بأن جنود فرنسا كانوا يجدون في كل حرب مع إيطاليا أفكاراً مدهشة في مجالات الفلسفة والسياسة والعلوم، وممارسات تُساير روح العصر آنذاك، وهو الأمر الذي استفاد منه بلده وساهم في تطوّره.

أخبار ذات صلة

الاستثمار في الأمن الغذائي
أعيدوا لنا 7:15 – 1:30


الحروب بمعناها الحقيقي، أصبحت من الماضي ولله الحمد، وأصبحنا نعيش عصر تلاقح ثقافي سلمي بإيجابياته وسلبياته.